الأحد، 22 فبراير 2015

مجموعة “ما لا يكون” لسيف المحاسنة

مجموعة “ما لا يكون” لسيف المحاسنة
العدالة الراديكالية - في مجموعة “ما لا يكون” الصادرة عن دار البيروني للطباعة والنشر، وهي الثانية له بعد باكورته خلايا الروح، دار الكندي، 2006، يكتب سيف محاسنة قصائده بأقل ما يمكن من الحِيَل البلاغية والألاعيب الأسلوبية. وتحتوي المجموعة على 38 قصيدة في 160 صفحة من القطع المتوسط، وقد كُتِبت قصائد المجموعة في الفترة ما بين سنة 1999 وسنة 2007. وتزين الغلاف لوحة للفنان الأردني بدر محاسنة، تأخذ من الصفحة نصفها، ويغلب عليها اللون الغامق المظلم، هذه القتامة التي يفيض عنها الحزن والغضب، وتوحي بالظلم والثورة، بالجدب والتضحية، تنبجس من باطنها لمعة بيضاء تستقر في عمق اللوحة، وتبدو مثل منبع دافق بالأمل الدائم، الطالع من قلب اليأس الضاحي المدلهم. حتى إذا أسرتك اللوحة وألهمتك ما ألهمتك، أسلمتك إلى اسم الشاعر بلــون أبيض عــلى خلفية سوداء، يعلوه العنوان بخط أكبر.


وينحو سيف محاسنة في ديوانه الجديد ما لا يكون تجاه التأصيل لمشروعه الشعري، محتفظاً للقصيدة بقدرتها على الإدهاش، وللنسق الجمالي بخصوصيته المتكئة هنا على لعبة الإيقاع المنتج للدلالة، والتي خطا من أجلها الشاعر طريقاً شاقاً أوصله إلى نصه الراهن الذي يعد – وباختصار - أكثر نضجاً من ديوانه السابق: خلايا الروح، وإن بدا الأول خلايا الروح حاوياً تجربة خاصة، ونزوعاً فلسفياً لا يمكن إنكاره، غير أنه وفي ما لا يكون يبدو الشاعر أكثر قبضاً على لحظته الشعرية، في نزوع ملحمي يمكن تلمسه في قصائد الديوان المختلفة، فثمة استراتيجيات للقصيد هنا، تتحكم في مساراته، وتتعاطى معه على نحو منطقي، يحوي نزوعاً فلسفياً دالاً، كما يضرب في فضاءات سديمية، تتداخل وتتقاطع معاً لتشكل جدارية بديعة عن الحياة، والعالم، والأشياء.

ولا بد من الإشارة في بداية هذه الدراسة إلى ذلك المذاق الغرائبي الذي يسيطر على أغلب قصائد المجموعة، ففي القصيدة الأولى التي تحمل عنوان زمن الهذيان، يضع الشاعر كل هذه التوصيفات في عهدة القارئ:- الليلة حين أزخرف واجهة الأرض بياقوت اللغة/ أريبُ الأزمنة/ وأستحلبُ هذا المتراكم في الرأس/ أرتلِّهُ في الفارغ من زمنِ الهذيان/ أوزِّعُ ظلَّ الأخيلةِ/ وإيقاع الزمنِ المتطايرِ في وهمِ الذَّاكرة/ أجرِّدني من صوت جنوني/ ادخلُ في كابوس السُّرر المغمورة بالشوك/ أعصرُ إصبعي المخمورَ/ أرتبه في فمي المهووس بأكسدة المعنى/ اقضمه/ وأقارعُ هذا القدر المتقاطر بالنقط الزرقاء/ أدحرجه بالتيه/ أستنزف أشلاء قناعته/ أُفرِغني من جسدي واموت ...(ما لا يكون، قصيدة: زمن الهذيان، ص9).

ومن الملاحظ على المجموعة أن هناك تفاوتا طبيعيا بين قصيدة قائمة على فكرة جذابة أو مشهد مقنع كما هي الحال في قصيد كائن السِّر: أنا السرُّ/ صوتي يمرُّ من الروحِ نثلَ الفراشاتِ/ أو مثلَ خوفٍ يَلُوحُ على طَرَفِ الذكرياتِ/ ويمضي كجيشٍ منَ النَّملِ في دَربِ هذا الفراغِ/ يُذرَّي سَكينَتَهُ/ ثم يَرتاحُ في ظلِّ غَيبوبَةٍ/ ويبُوحُ بما يَختفي في قميصِ الحياةِ الطَّليقةِ من رغبةٍ وخَيالٍ شَهيٍ/ يؤلِّب شرَّ الحقيقةِ في داخلٍ شوَّهتْهُ الهمومُ/ وأعماهُ شكلُ النهايةِ.....كائن السِّر، ص132، وقصيدة أخرى لا تساعدها فكرتها على إدهاش القارئ مثل عاطفة الرؤوس: اللَّحنُ عاطفةُ الرؤوسِ/ حرائقُ الحلمِ المفاجئ/ رغبةُ الموتى وإيقاعُ الجنونِ/ خزينةُ الروحِ/ احتفالُ الصرخةِ الكسلى/ وأُفيون الحياةِ/ أكونُ مختَزَلاً إذا أخفيتُهُ/ وأكونُ نجماً هامِداً/ أو صورةً فوقَ الجدارِ/ يُذيبُني زمنٌ فضائيٌّ/ وينزعُني الحُفاةُ ...عاطفة الرؤوس، ص98).

ولعلّ أبرز ما يصدمك في قصيدة المحاسنة، هو هذا الوجدان المحتشد بالحزن العميق والغضب الهادئ، إنه ينوّع في المعنى، ويغلف صوته الخافت بالإيقاع، والمفردات المعتادة في شعر الموضوعات المسماة بالكبرى، يقول المحاسنة: الكتائِبُ أرسَلَتْ أسنَانَهَا المُتفَجِّراتِ إلى منازِلِكَ/ الصواريخُ الغَزِيرَةُ أَمطَرَتْ في ليلِكَ الناريِّ/ في الريحِ كُنتَ مُحاربَ الخوفِ/ اخترَعتَ لِقلبِكَ البريِّ أجنِحَةً/ وَغادرتَ الزَمانَ السَّرمديَّ لهِذه الجُّثثِ../ الوجودُ المطلقُ/ الألمُ السحيقُ/ وخِنجَرُ الرُّعبِ المدمَّى... قصيدة عِراق، ص29).

وفي قصائد سيف محاسنة لا نعثر على سياق نمطي ينظم الكلمات في سلسلته المهيأة سلفاً، إنه يخوض في المعاني، ويركب جملته بعقلانية لا تبتعد كثيراً عما ألفناه، أما من حيث الشكل فهناك اقتصاد لغوي وتكثيف عميق يمنح القارئ فرصة التأويل والتخيل ليتقمص الحالة كما تبتغي النفس والحالة الوجدانية في لحظة القراءة والوصول الى اللذة التي يتحد بها كاتب النص والقارئ في آن، كقوله: المحارِبُ حينَ يَعودُ مع الفجرِ محتَرِقاً/ يستَشِفُّ الصُّخورَ/ ويستَعسِلُ الرملَ/ أو يستطيبُ الحَصى/ يستجمِعُ الصَّرخةَ المستَفيضَةَ في القبرِ/ يعدو بلا خنجرٍ في مهبِّ الجيوشِ/ ويطرُقُ بابَ التملُّكِ/ مستذئِباً/ يتَدافعُ نحوَ البقاء. ..(جنونُ المحارب، ص38).

واللافت في قصائد الديوان أنه حين تعوز الشاعر الحاجة إلى التعبير عن نوازعه الداخلية فإنه يلجأ إلى التماهي مع القول الشعري ذاته، ومن ثم يصبح الشعر في قصيدة كائنُ الصوت قريناً للكبرياء، ورغبة التمرد، والانبعاث والإفلات من أسر المواضعات الجاهزة.
ويعبِّرُ الشاعر في مجموعته الجديدة عن تلك الروح الإنسانية في تبدلاتها المختلفة، وتحولاتها المتجددة، وهو قادر على ابتعاث الأسئلة من جديد، وتفجير طاقات التخييل الشعري لدى المتلقي، عبر إفساح مساحات ضافية من التأويل، حيث تبدو الذات الشاعرة مدركة أن الطريق كان وسيظل في محاولة الكشف عن ذلك الجوهر الثري للإنسان، في استكشاف مساحات أدق من النفس البشرية المعقدة، وعبر هذا الفهم يمكن النظر إلى شعرية ديوان ما لا يكون بصفتها طريقة في الاستبصار بالعالم، وأداة نافذة للتماهي معه، من أجل إعادة صوغه جمالياً، والنظر إليه وفق زاوية جديدة للحياة، والأشياء. وفي ما لا يكون يدرك الشاعر أن الشعر سعي نحو الإدهاش، التقاط لما هو جوهري وحقيقي، عبر تشكيلات جمالية مغايرة، يجيدها، خاصةً حين ينطلق من كون الشعر مغامرة،وضرباً في المجهول: سمَّرتُ أحزاني على قيثارةٍ.../ في الليلِ تَشدو/ مثلَ عُصفورٍ جَريحٍ/ ضيَّعَ الأوزانَ/ واستولتْ على عينيهِ رعشاتِ المسافاتِ الطَّليقةِ/ واستظلَّ الحلمُ في جَفْنيهِ/ وارتشفتْ مَدامعُه الرؤى. ..(إيقاع، ص114).

ويفاجىء سيف محاسنة قارئه بما يكتنزه من قوة تعبيرية هائلة لا يتوافر الإمساك بها إلا لشاعر على درجة من الفطنة والذكاء والموهبة والحس الشعري، ولحسن الحظ،يمتاز سيف بكل هذه المواصفات التي تساعده على تشكيل ماهو واقعي مألوف لخدمة غرضه الشعري الذي يتخطى بدوره الواقعي والمألوف إلى ماهو رمزي، ومن الأمثلة على ذلك قصيدة ما لا يكون وهي القصيدة المركزية التي يحمل الديوان عنوانها من جهة، وهي التي تعبر عن رؤية الشاعر للعالم من جهة ثانية، والتي نجد أنفسنا من خلالها أمام نص عن الزخم الإنساني في أشد تمثلاته خلقاً وابتكاراً، فعلى المستوى التقني يعيد الشاعر الاعتبار إلى العناصر الأكثر فنية في القصيدة، وعلى المستوى الرؤيوي، ترصد القصيدة هذا الارتحال القلق في الفضاءين الزماني، والمكاني، ارتحال وجودي قلق، وجهته الإنسان، وضالته في آن.وعليه، تمثل الحياة اليومية المعاشة بكل إيقاعاتها المتناغمة والمتنافرة وبكل مادتها الفجة والراقية معينا لا ينضب ينهل منه الشاعر صوره التي تنبض بالروح والحيوية والعاطفة، لأن سيف لا يسعى إلى توصيف الأشياء كما هي وإنما ليوظف تلك الذاتية ويدفع بها إلى الإمام بكل ما تكتنزه من حرارة وبرودة وروائح وألوان ومادية وتجريدية لتخدم غرضه الشعري القائم في الكثير من الأحيان على خلق صدمة مفاجئة بين عالمين واقعيين متناقضين بحيث يبث فينا ذلك التصادم موجاته الإيحائية التي تنقلنا إلى متاهة الشعر في إطار غير زمني.

أما الصورة عند سيف فهي بسيطة تركيبية تعتمد بنية لغوية متكررة تضفي عليها عفويته الشعرية المتدفقة جمالية رائعة، تكتنز بين دفتيها مدى عاطفياً وانفعالياً عالياً، يلحم بين جزيئاتها المنتقاة من خامة مألوفة بمفردات دارجة تقريباً بما يكسبها حساً واقعياً، يتحول إلى رمزية عالية تؤشر إلى ثقافة وانتماء طبقيين معينين، كما هو الحال في قصيدة شظايا الروح والتي هي واحدة من أطول القصائد في الديوان، ومن أكثرها عذوبة،حيث تشيع الجمل المركزية مثل يتنامى كالنخلِ ويبكي ويحفرُ خندَقَهُ في الرملِ/ ويرفعُ راياتِ الوطنِ المهزومِ، كما تتكئ على كسر أفق التوقع لدى المتلقي، معتمدة تلك النهايات المدهشة لمقاطعها المختلفة، وتبقى ملاحظتان على الديوان، تتعلق الأولى بذلك الإهداء الذي صدَّر به الشاعر ديوانه، فبدى غامضاً وغريباً، وكأن الشاعر أراد من خلاله أن يلقي بقارئه في عالم الخيال المحض أو في الغموض المبهم.
أما الملاحظة الثانية، فتتعلق بالعدد الكبيرمن القصائد في المجموعة والتي بلغت 38 قصيدة ولا شك أن هذا العدد من القصائد هو عدد كبير لديوان واحد مكتنز - إذا ما قيس بما يصدر من مجموعات شعرية في المشهد الثقافي المعاصر، ولكنه يدلّ على موهبة متدفقة، ومتمكنة من أدواتها اللغوية والشعرية.

وختاماً أقول إن الشاعر سيف محاسنة واحدٌ من شعراء الألفية الجديدة، وهو الجيل الأحدث في الصوت الشعري في الأردن، والذي بدأ يبرهن عن نبوغه وتميزه في وقت قصير، وهذا جيل حري من الأجيال السابقة له من التسعينيين، والثمانينيين، ومن الرواد أن يستمعوا إلى صوته ويرحبوا به، لأنه صوت جدير بالمتابعة والتقييم والتأمل.

ليست هناك تعليقات: