الخميس، 4 أكتوبر 2018

السلطة والعودة، بين الداخل والخارج، تجربة شخصية - د. رياض عبدالكريم عواد

السلطة والعودة، بين الداخل والخارج، تجربة شخصية 
د. رياض عبدالكريم عواد
كلما كان الانسان بعيدا مكانيا عن الوطن يكون أكثر تطرفا، سياسيا وخطابيا...
تنقصه المعلومات الصغيرة، الأسباب الحقيقة والدوافع والتفاصيل الصغيرة، التي لا غنى عنها من أجل أن يشكل فكرة صحيحة وموضوعية ليكون له موقفا سياسيا.
الغريب عن الوطن يهتم بالبعد الاستراتيجي، والمفاهيم العامة والشعارات والاغاني الوطنية والثورية. طالع لك يا عدوي طالع. في الوطن انت في مواجهة مباشرة ويومية مع العدو، دون أن تحتاج أن تسمع من يناديك بهذا النداء.
في الغربة انت تغني لجماهير الأرض المحتلة وتطالبها بالثورة، ياجماهير الأرض المحتلة، ثوري ثوري يا جماهير ...... في الوطن انت فوق الأرض المحتلة، بين الشعب المحتل، تواجه معهم وسويا تفاصيل الحياة تحت الاحتلال. أنت لست بحاجة إلى (تثوير) ولا الى من يلقي على مسامعك الخطب والشعارات الصاخبة.
التمسك بالشعارات والرموز والاناشيد والعَلم والمواقف الصاخبة يشكل، في الغربة، زادا للمغترب ليروي ظمأ حنينه إلى الوطن وتفاصيل هذا الوطن، ليعوضه لوعة البعد والفراق.
كما يشكل هذا الموقف للمغترب حماية وحائط صد في وجه من يتهمونه، ويتهمون شعبه بالتفريط او التنازل او التعامل اليومي مع الاسرائيلي، هذا صعب على فهم المواطن العربي أن يتعامل شعب تحت الاحتلال مع محتليه، كيف ستشرح لهم هذه التفاصيل الصغيرة. لذلك اللجوء للشعارات الكبيرة والرموز هي وسيلة هامة لدفاع المغترب عن ذاته.
لقد عانيت الأمرين وانا طالب في جامعة القاهرة، في منتصف السبعينيات ق20، كيف اجيب عن سؤال زملائي المصريين، الذين يعتقدون أننا نعيش مع الإسرائيليين كجيران في حي واحد؟! ان هذا ما يعانيه كل فلسطيني عندما ينظر للعمال الفلسطينيين الذين يعملون في إسرائيل، او المريض في مستشفياتهم، او الطالب في بعض معاهدهم، كيف يجيب الفلسطيني المغترب عن أسئلة زملائه العرب عن هذا التعامل "الطبيعي" بين الفلسطيني وعدوه الذي يحتله ويحتل ارضه؟!
في الوطن، تصطدم بالواقع بكل تفاصيله، تصطدم بالحياة ومشاكلها، تصطدم بالناس واحتياجاتها ومطالبها الكثيرة، الصغيرة منها والكبير.
في الوطن تتراجع الأسئلة الكبيرة لصالح الاحتياجات الصغيرة، التي في مجموعها وتراكمها هي الإجابة الواقعية والممكنة للوصول عمليا، بعيدا عن الشعارات، للسؤال/الأسئلة الكبيرة.
في الغربة تكون تحت تأثير مباشر للإعلام، في الوطن يستمر تأثير الإعلام، ولكن واقع الحياة هو الذي يلعب الدور الحقيقي في تشكيل مواقفك.
موقف المغتربين الإجمالي مناهض للسلطة الوطنية، ومعترض على كثير من مواقفها، هذا يمكن تفسيره من خلال تركيز الإعلام بطريقة مقصودة على سلبيات السلطة، والتركيز على كل الاشكال المنفرة التي تضطر السلطة وممثليها القيام بها من أجل مواجهة واقع الحياة، ومتطلبات الناس على الأرض، هذا يريد أن يتعالج، وذاك يريد أن يتعلم، وآخر بحاجة إلى جواز سفر او هوية.....الى آخره من قضايا تتطلب منك أن تتعامل مباشرة مع الاحتلال، يلتقط الإعلام هذه الصورة، وينفخ فيها متعمدا، ويصبح دمغ السلطة وادانتها بسبب التنسيق الأمني هو الشعار الذي تنفخ فيه، دون كلل او ملل، الأحزاب والاذاعات والمرئيات ووسائل التواصل الاجتماعي والجماعات المؤمنة والجماعات الثورية، كل يغني على ليلاه، متناسين، عن قصد، الدافع الاساسي والحقيقي الذي يجبر السلطة على هذا السلوك لتسهيل حياة الناس اليومية. طبعا كل إيجابيات السلطة لا ذكر لها؟!
يقول أحد المشاركين في تعليقه "واقع الحال الذي نعيشه في الغربه، حيث معظم الناس ناقمه على السلطة بسبب من يروجون الاكاذيب ضد السلطة، وهذا يتقاطع مع هدف الاحتلال الصهيوني في إضعاف مواقف القيادة الفلسطينية". ويضيف "الشعب الفلسطيني عاطفي جداً، يتأثر بالدعاية الهدامة التي تروجها وسائل الإعلام ضد السلطة وقيادتها، وفي المقابل تروج للمقاومة حسب مزاعم حماس".
ويقول مشارك اخر في تعليقه "الي إيدو في الماء مش زي الي ايدو في النار، والي بياكل الضرب مش زي الي بعدو". من المفيد دراسة اتجاهات المغتربين نحو القضية الفلسطينية، او دراسة مقارنة بين مدى تاثر المغتربين والمقيمين في فلسطين بوسائل الاعلام، وهل الواقع المعاش من طرف المقيمين في فلسطين يلعب دورا في مثل هذا التاثير....يقول أحد المعلقين. بعيدا عن فكرة البحث، المغترب لا يعيش الواقع ولا يلم بالتفاصيل، وغالبا ما تحكمه العاطفة في النظر والحكم على الامور والاحداث". لدرجة أننا "من تعليق الشخص نستطيع ان نعرف اين يعيش"، كما يقول أحد المعلقين. لقد حذفت اكثر من 100 شخص من اقاربي المغتربين بسبب هذه الافكار والقناعات المشوشة، بعد ان حاولت بكل جهد تغيير افكارهم، لدرجة انني كنت بحس أن قناة الجزيرة ساكنة في رأسهم".
اظن ان تلك النظرة الجائرة، من معظم المغتربين، يقول أحد المعلقين، على المنظمة والسلطة، هي انعكاس للمناخ العام المأزوم، الذي فرضته التيارات الاسلامويه مع منتصف الانتفاصة الاولى، والذي بدأ يطفوا على السطح مع قدوم السلطة .. حتى ألقى بظلاله على كل مناحي الحياة، وفي مقدمتها النظرة الى منظمة التحرير ونضالها، فتحولت تلك النظرة من التقدير والتفهم والنقد الموضوعي، الى تلك النظرة المتوجسة والمشككة ثم المخونة. لقد دخل المجتمع في مرحلة الازمة والتشنج .. حيث استطاعت تلك التيارات لاحقا ان تفرض، وحتى اليوم، مناخا عاما متحفزا متوثبا حِديا .... وعلى حافة الهاوية دائما، وجاهزا للاقتتال فيما لو سمحت الظروف .......!!!!
ان هذا المناخ، قد دفع بالمغتربين، بدلا ان يكونوا اكثر موضوعية في تقييمهم للامور، نجد انهم يظهرون مبالغة غير منطقية، فأحكامهم تأتي مشتملة على قدر غير قليل من التجني والاتهام، وربما كان مرد هذا هو من باب "الهجوم خير وسيلة للدفاع"، فهم يتهمون المرحلة ويشيطنونها استباقا، ظنيا، لما يمكن ان يتهموا به، من أشقائهم العرب، من الخروج او التخلي او الهروب من الوطن. كما أن المزايدة هي مكون اصيل من مكونات الشخصية الفلسطينية والعربية بشكل عام، والتي دائما ما تأخذ بصاحبها بعيدا عن الموضوعية والصدق .. والتي هي آفتنا الاخطر والالعن .... ومن هنا ينتج كل هذا الخلط في المفاهيم، بين ما هو متاح وممكن وما هو مأمول ومرغوب .. .
ان الماكينة الاعلامية المضادة والجبارة تفعل افاعيلها في تكوين هذا الموقف عند فلسطينيي الاغتراب، واذا ما اضفنا الى هذا ما يميز الشخصية الفلسطينية من طرب الى لغة الشعار، وافتنان بطبول الثورة والحرب، والاستسلام امام الخطاب الديني والثورجي المتطرف .. أدركنا ان هذا الامر، بالفعل، من الاهمية والخطورة، بحيث انه يتوجب على كل المخلصين والوطنيين القيام بما يستطيعونه، لاظهار الامور على حقيقتها وبأنها ليست شرا كلها، كما يحلوا "للبعض" ان يصورها ويصدرها .......
ان المفردات التي يستخدمها المغتربين تتمحور حول "خيانة اوسلو والتنسيق الامني ومنع المقاومة واعتقال المقاومين" وتتمحور نظرتهم الي حكم حماس، وكأن حكومة حماس حكومة ربانية، وهم المسلمين وباقي الشعب في غزة كفار ..."، كما يضيف أحد المعلقين.
مثل اخر لهذا التشوش والتطرف في الافكار بين الداخل والخارج، ما يُسمى مسيرات العودة، هذه المسيرات، كشعار عام ونشاط نضالي، تلبي طموح الفلسطيني، إن كان فوق أرضه متمسكا بها، او مغتربا يتوق الى العوده إليها، هذه اهم امنياته ليتخلص من نير العبودية فوق أرض الأشقاء. لذلك لا يدقق المواطن المغترب في التفاصيل الصغيرة، ولا يعرفها. لكن اهل الأرض الذين يعيشون عليها يهتمون بكل التفاصيل، ويعرفون الأهداف الحقيقة للجهات التي تقود هذه المسيرات، ومتأكدين أن هذه المسيرات لا علاقة لها لا بالعودة إلى أرض او وطن.
كما انهم يدققون بالمشاركين، بأعمارهم، واهدافهم ودوافعهم، مِن هذا الشاب الذي يتوق للنضال من أجل شعبه ووطنه، إلى ذلك الشاب الذي يريد أن يهرب من قهر حياة غزة ويرى الموت ارحم له من هذه الحياة، إلى ذلك الطفل وأمثاله من الشباب والفتيان الذين يتمنون (طلق زاكي) من أجل أهداف صغيرة، 200 شيكل أو دولار مثلا، إلى ذلك الشاب الذي يبحث عن فرصة للهرب والعمل داخل إسرائيل.
يهتم من يعيش هنا فوق الأرض ملامسا تفاصيل الحياة، مقدرة المستشفيات على توفير العلاجات للجرحى ومبتوري الاقدام، مقدرة الجرحي على مواصلة حياتهم وحياة الأسر التي يعيلونها، مقدرة الجرحى الوصول إلى المستشفيات بطريقة إنسانية لائقة، وليس فوق عربات الكارو التي تجرها الحمير والبغال المنهكة كأصحابها.....التفاصيل كثيرة، هي من تضع من يعيش فوق الأرض في مواجهة مباشرة مع الحقيقة، فتدفعه، غصبا، ليكون أكثر واقعية.
ان نظرة الخارج الي مسيرات العودة، كما يقول أحد المعلقين، تتمحور ببساطة شديدة على انها جهاد، وكل من لا يشارك فيها هو أثم وعليه وزر ...انهم ببساطة مغيبين عن تفاصيل الواقع والحقيقة، ومسيطر عليهم من مختلف أشكال اعلام الاخوان المسلمين، بشكل جنوني، هذا ما ينهي به أحد المعلقين تعليقه؟!.
الوطن في الغربة جميل جدا ولكنه لا يعكس واقع الحال الحقيقي. أو كما اختصر ذلك سيد الكلام، محمود درويش "الطريق الى فلسطين اجمل من فلسطين"، وذلك بعد عودته مباشرة الى الوطن ....!

ليست هناك تعليقات: