الأحد، 9 ديسمبر 2012

ومضات الشاعرة جودة بلغيث - د. جاسم الياس


  ومضات الشاعرة جودة بلغيث - د. جاسم الياس

 أن ما تطرحه ومضات الشاعرة جودة بلغيث بدلالات ضمنية ورموز لغوية ارتقت بمستواها الإبلاغي من خلال اشتغالها في النص على جدلية الحضور / الغياب بتداخل وتتابع انتهك فيهما الدال خفاء المدلول كمعادل رمزي لتجربة الشاعرة الحياتية والتي أعانتها لتغترف من نبعها الثر وتوازي بها شعريتها التي انطوت في بنائها وصورها ورموزها بمستوييها التركيبي والدلالي على فاعلية أطلقت قدرتها في فض مغاليق النص وتوهجه مرتكزا على وعي الشاعرة. بحوار داخلي الشاعر مع الذات:

الشاعرة جودة بلغيث
نجوم اللّيل تستهويني

أرقبها نجمة نجمة
و .....أرتّبها
نجمة
نجمة

وحوار خارجي الشاعرة مع العالم المحيط : 


نجمة

و نجمك يغيب عني
أريد و تُريد
تُريد و أُريد
و الضّوء بعيدٌ ....بعيد...


 ثم تحريك هذه الاشارات وبلورة النص الشعري واطلاقه في فضاء لا يحد , لحظتها تتخلى المفردة الرمزية عن فعاليتها الآنية لتنتقل الى المحاثية الدلالية عند الانتهاء من قراءة النص التي بدورها تشكل اتصالا بين الرموز الرئيسة وتوالداتها وهذه العملية بمثابة الانفلات من محور الثبات (الاحتياج الاني) الذي يقتضي بملاقاة ضالته والارتواء منها الى محور المغامرة ( الارتقاب) الذي يزداد شدة واتساعا بعد كل ارتواء (المغامرة ليست رغبة ذاتية مرتجلة بل هي خيار واع ومقصود ). ولان (اللغة لا تملك الاشياء بل الدلالات وان الدالة محدها الجديرة بالتحليل واعادة التفكير في التباسها الخاص ) كما يقول مطاع صفدي سيكون تناول العلاقات بين الدلالات ومستخدميها : ارسالا (الشاعرة) وتقبلا (المتلقي) معتمدا على التأشير الدقيق نحو أشكال الترميز وأنساق التخييل للوصول الى الفسحة المبتكرة في تجسيد المسافة وراء كل دلالة ابتداء من عنوانات الومضات وإغواء المتلقي وتفسير التوحد مع البعد الجمالي لمشاكسة تستنفر مخيلة المتلقي حال وقوع أبصارنا على العنوانات فتأتي قوة الانسراع التي لا تشكل الدلالة بالنسبة لها إلا لحظة تجسيم (سجادة من ورق) و (ليلة ماطرة) (رائحة الوقت


 إن ما وظفته الشاعرة عبر صياغات جدلية معرفية ، وتكثيف شعري وبنائي متمرد في تشكيله البصري ،( و الوقت كااااااااااااااااافر، كافر) ( لبوابة الفراااااااااااااغ ) يحقق مراوغة ومغامرة في تجلي الأثر الانطباعي للقارئ العادي ، والأثر التحليلي للدارس في الآن نفسه إذ امتلكت القصيدة إشارات توريط عديدة تكمن خلف عبارات النص المنعرض ، فعندما نعمل على تحريك عجلة المخيلة في واقعها المتجذر ضمن توصيفات خارجة عن التقليدية التي تفرض مناخا انسيابيا هادئا ، والتراكيب الصورية التي نجد فيها على الرغم من الوضوح ما يمنحها الانزياح نحو وعيها الشعري ،إذ تتخلق لدينا محمولات مشاكسة تقود إلى فضاء تدليلي يصعب ترسيم حدوده . فعلى سبيل المثال لا الحصر لو أردنا الوقوف عند:

( هذا المساء

الكون حدُّه الجنون

و وحدك تُحكِم التّقنينَ)
لتجاوز البنية السطحية للكلمة إلى البنية العميقة وفي هذا المستوى من التحليل سنغادر دائرة التمظهر اللغوي القار ونكسر حدودها وننحاز إلى جوهر الشعر في كل تحولاته الدلالية .
 إن صور هذه الومضات تستدرج القارئ نحو الإثارة والإغراء والوقوع في دائرة السحر الدلالي وهي تؤثث لاحتمالات مؤجلة تنزع الى اقصى الإعترافات المرهونة بواقعيتها على الصعيد الشخصي المعيش وتخيلها على الصعيد الفني الداعم لضرورة الإيهام والاستسلام لحبائل الاقناع والإمتاع وعلى الرغم من الاضاءات التي شتتت عتمة الانتظار الممهور بالتوجس إلا ان المسكوت عنه يبق قابعا في بقعة تسيطر عليها المواضعات الإجتماعية التي لا تعمل على التخفيف من الاثارة بقدر ما تجعل يتمرد أكثر في خلق موازنة بين المرجع الواقعي والبنية المتخيلة :
(  و تلك النّقطة الباهرة
و ذلك الصّوت الملائكيّ
دعوتي لخلاصي  ) ........
 فالومضات تحتشد بالصور التي تعقبها صور أخرى في توحد وتناسق لتقودها الشاعرة مجتمعة إلى الصورة الكلية، وسواء أكانت الصور حسية تتجسد بوضوح أم تجريدية نستطيع محاورتها ضمن تشكيلة كلما تجردت انقلبت أكثر حسية وأومأت بسرعة ضوئية إلى ما يتحسس في خلق فضاءات لا تشبه إلا أحوال رؤاه ذاتها، في كلا الحالين تحول الشاعرة الـ(أنا) الشعرية الراوية وتحشدها في مجموعة قوى تشحنها بـ(أنا) متمركزة في ذاتها، أكثر أنوية وهي تتخفى وراء راوية شعرية كلية العلم تقصد ذاتها من خلال الآخر في أغلب قصائد المجموعة (الثّانيّة تجرُّ الثّانية ، بألوان الطّيف تتنفّسني ، الشّهقات تناهيدٌ مبثوثة...... وتعد الومضات من القول الشعري السيرذاتي الذي يقتصر على تجربة ذاتية تتمتع بخصوصية تدفع الشاعرة الى تصويرها شعريا في مضمون مؤهل للتشكل الفني السيرذاتي اذ تتمظهر فنيا وأسلوبيا نوعيا باعتمادها على الحكي الاسترجاعي المؤلف شعرا إلى التفعيل الساخن لآليات الذاكرة المتمحورة حول بؤرة زمكانية تتحدد بالواقع المعيش للتجربة وتنحو منحاها في تسخير اي شكل شعري متاح بوسعه التلاؤم الفني العالي معها. وتتأسس جمالية هذا القول ، على الثنائيات الضدية التي تنبع من الأنا / الآخر بكل توالداتها هي الكفيلة بتوالد هيمنة رومانسية في مثل هذه الومضات التي ابدعت فيها جودة بلغيث وهي تقدم نفسها في استعارت حاولت تقديم الوصول الى صيغة التوافق بين المكتوب والمعيش ،والمكتوب والوهم في نسق استيهامي تحرك في سرانية نص انثوي .د. جاسم الياس إن هذه الومضات الشعرية قد انتقلت في ممارستها من لغة التعبير الى لغة الخلق .. ومن لغة التصريح الى التلميح اي من التقريرية الى الاشارة ..للوصول الى (رؤيا) في هذه المارسة ..لأن الرؤيا هي تحويل لعلاقات الاشياء .. ومن هنا كانت قصيدة الرؤيا ان جاز التعبير هي خروجا عن الاشكال الفنية المألوفة .. وتمردا على سلطان النموذجية الفنية .. وهي تستكشف وتستقصي وتعارض الواقع المعطى بواقع آخر ، إذ بدا أن شحن المفردة أو الجملة بكل ما يمكن من التدليل والترميز يهتك الحضور فيها ــ أي الومضات ــ بنية الغياب .. ويغامر في منطقة الحرية : الإرادة والاختيار .. ويشغل الغياب بنية الحضور في فاعلية أكثر حرية .. فتكتسب المغامرة الثاوية في عمقها اللساني دلالاتها ، وشروعها في فتح المجاهيل، والتفاعل مع الأنساق اللغوية.


رائحة الوقت


الثّانيّة تجرُّ الثّانية
تنفلت من صدإ الزّمن 
قدرٌ محموم
يضرب مواعيدَ
تبتعدُ كلّما اقتربت
مواعيدٌ لا تجيء 
و المسافة حجرٌ يتصلّبُ
كيميائيّةُ الوقت تهزمُه
للوقت رائحة الطّين البكر
للوقت رائحة الطّوفان
بعد مروره
جناحاك مغلولة
منكسر الرّوح
تسافر حيثُ أنتَ
و الأفقُ ضيّقٌ...ضيّق
لا ، و ألفُ لا ااااااااااا
الرّوح لا تؤمن بالمسافة 
الزّمن ليس من خرائطها 
و الوقت كااااااااااااااااافر، كافر
**جودة بلغيث **

 في ختام القراءة نقول ان هذه الومضات تتكئ في كفاءتها الشعرية وجمالياته الأسلوبية على مغامرة لغوية تدفع إلى توظيف إمكاناتها وطاقاتها للوصول إلى اللحظات الشعرية الحرجة والضاجة بالمعنى .. إذ إن توظيف الأفعال المضارعة ، وتواليها وتداخلاتها بشكل متناغم قد أعطى للنص تكثيفا فعليا وشدة إدهاش وتقارب دلالات .. وهنا تأخذ المغامرة قيمتها في تحدي القراءة في هذا الكون الشعري.. فالأفعال (( أرتب ، أريد ، تريد ، تجرّ ، تنفلت ، تبتعد ، تسافر، أتعقّب ، تخذل ، تتدفق، تنهمر.... وبقية الافعال )) قد تم توظيفها بهذا الشكل الذي أضفى مبالغة وقوة أكثر في توظيف الفعل المضارع داخل النص.

ليست هناك تعليقات: