الثلاثاء، 15 يوليو 2014

مريد البرغوثي : أغلب نقادنا العرب لا يعرفون كيف يقرأون قصيدة

مريد البرغوثي : أغلب نقادنا العرب لا يعرفون كيف يقرأون قصيدة
الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي لـ«الشرق الأوسط» :
 المنفى تجربة شخصية لكني لا أهجو كل شيء في المنفى ولا أمدح كل شيء في الوطن
القاهرة: محمد أبو زيد
صدرت حديثاً ترجمة إنجليزية لكتاب الشاعر لفلسطيني مريد البرغوثي «رأيت رام الله» أنجزتها الروائية المصرية ـ البريطانية أهداف سويف، وكذلك صدرت له مجموعة شعرية جديدة بعنوان «زهر الرمان».هنا حوار معه حول الكتابين ومسيرته الكتابية والشعرية.




  • * تبدو مولعاً بإلقاء الأسئلة في شعرك. هل ترى أن وظيفة الشعر هي إثارة الاسئلة؟
ـ أجبني أنت، ألم تفقد صوابك بعد، من كل أولئك الذين مهنتهم تقديم إجابات مملة ومتوقعة في كل ضروب حياتنا، من رسميين ومتنفذين وأصحاب منابر وأجهزة؟ أنا لست الطبيب الاستشاري والصيدلي والمدرس ووزير الاعلام وموظف الاستعلامات والمفتي. والشعر يسقط اذا تحول الى موعظة. ان الاجابات لا تحتاج الى شاعر، «الكل يتشدق بمعرفتها ولله الحمد»! أما الأسئلة الصحيحة، الأسئلة الموجعة، الأسئلة التي قد تكلف صاحبها أثمانا تتفاوت في فداحتها، فهذه هي التي نتوقعها من الشاعر، لا أزعم أنها وظيفة الشعر بالتحديد، لكن الحياة علمتنا أن مجال التزوير والتزويق في الاجابات التي يقدمونها لنا حول مختلف قضايا حياتنا هو مجال واسع الى درجة تدعو للسخرية. إنني لا أصارع الثقافة المسيطرة على عالمنا على اجاباتها، بل أصارعها على أسئلتها الخاطئة، في عملي الشعري أطرح تساؤلات، والتساؤل بالضرورة، يستدعي إجابات عدة، المجتمعات المغلقة القائمة على الفكرة الواحدة والحزب الأوحد والزعيم الأوحد والشاعر الأوحد لا تطيق التعدد في أي مجال، الشعر يقع في منطقة بين الحيرة واليقين، ويعترف بالضعف الإنساني ويتسع لقوس قزح متدرج الألوان، يبدو لي أنك بالأبيض والأسود قد تصنع صورة فوتوغرافية بديعة، لكنك لن تصنع بهما مجتمعا ولا شعرا.
  • * التيمة الأساسية في ديوانك الأخير «زهر الرمان» هي الحديث عن ومع والى الموت، فأنت تجلس الى جواره تحادثه وتضاحكه وتحتد عليه أيضا، إلام يعود هذا برأيك؟
ـ أستغرب من طرح هذا السؤال على أي شاعر في العالم الثالث، فما بالك في توجيهه الى شاعر عربي وفلسطيني، تذكر أننا عشنا خمسة أجيال أو أكثر من القتل في هذه المنطقة من العالم. أنا لا أكتب عن الموت كتجربة فلسفية أو ميتافيزيقية فقط بل أكتب تجربتي الشخصية والفردية والجسدية الحميمة، فيقفز الموت في حواسي الخمس وفي ذاكرتي الحية الساخنة قبل أن يقفز الى الورقة. انقضى القرن العشرون كله ونحن نحاول أن نتجنب الابادة الجسدية والابادة السياسية، أما القرن الواحد والعشرون فقد اندلعت أولى حروبه علي أرضنا ولا تزال دائرة بكل ما فيها من جنازات وقبور. هل يمكن لشاعر ألا يهتز «لموت المظلوم»؟ وأضيف هنا أن الشعر لا تعلو به ولا تنخفض به مواضيعه، بل كيفية التعامل معها عبر أدواته.

  • * المنفى أيضا، يبدو حاضرا وبقوة عبر جنبات الديوان، هل من الممكن اعتبار الكتابة عنه الآن انعكاسا لحياتك الخاصة؟
ـ المنفى تجربة شخصية عشتها معظم العمر وما زلت أعيشها الى الان، كما أنني عشت بين منفيين آخرين واقتربت من تجاربهم، وتركت آثارها فيما كتبت، لكني لا أهجو كل شيء في المنفى ولا أمتدح كل شيء في الوطن، الحياة ترفض مثل هذا التبسيط.
  • * من التيمات الرئيسية في شعرك اللقطات الاستذكارية أو «الفلاش باك».. هل يرتبط الشعر لديك بالذكرى؟
ـ اللقطات الاستذكارية، «الفلاش باك» تقنية من تقنيات الكتابة تقتضيها أو لا تقتضيها عملية البناء داخل القصيدة أو الرواية، انها مجرد أداة من أدوات البناء، وهي قد تفقر النص أو تثريه حسب استخدامها، كما ان «الفلاش باك» نوع من أنواع التدخل في الايقاع وفي موسيقى النص، لأنه يدعوك للتوقف مؤقتا عند نقطة، يأخذك بعيدا ثم يعيدك الى نقطة المغادرة. وهذا من الأمور التي لا تحتمل العبث، لأن المخاطر الناجمة كبيرة.
  • * كذلك تبدو ولعا بالسرد خاصة في ديوانيك «زهر الرمان» و«الناس في ليلهم»، هل أصبح السرد من مستلزمات القصيدة الحديثة؟
ـ لا يوجد شيء اسمه مستلزمات القصيدة الحديثة، وليس هناك اتفاق على تعريف أوحد للقصيدة الحديثة، أما سؤالك عن السرد فالشعرية مبثوثة في السرد أيضا، القصيدة هي أحد أشكال التقاط ما هو شعري في الكون والسرد شكل آخر لالتقاط الشعرية، وكما ان هناك قصيدة بليدة فهناك سرد بليد.
  • * كتبت النثر والتفعيلة، والعمودي، وهو ما تجلى في تجربتك «طال الشتات» كيف ترى هذه الاشكالية؟
ـ الشعر ليس عرضا للأزياء، الشعر هو الجسد الحي ذاته، انه تصورنا الخاص للعالم، المبدعون يأتون ويذهبون ويتركون لنا تصوراتهم المختلفة لعالمهم عن طريق اشكال فنية، شعرا ورسما وموسيقى ورواية، وسينما ومسرحا ورقصا الخ.. داخل كل جنس من هذه الأجناس الفنية هناك اجتهادات ومقترحات عديدة، لا توجد وصفة في الفن، كنت قلت مرة في مقال لي «إن ديوانا واحدا جميلا قد يقلب كل مفاهيم الشعر». أنا أكتب في الأشكال الثلاثة التي أشرت اليها النثر والتفعيلة والعمودي، أحيانا قليلة، وقد أجمع بين هذه الاشكال في قصيدة واحدة اذا تطلب بناؤها مثل هذا الجمع، ويبقى على القصيدة ان تبرر شكلها النهائي، ان هذا مثل ساطع على الأسئلة الخاطئة في حياتنا الثقافية التي أفرزت أطنانا من التنظيرات التي لا ضرورة لها وأدت الى تناحر الاقتراحات وافقارها بدلا من تحاورها وإثرائها.
  • * ديوانك الأخير يختلف كثيرا عن الديوان الأول الذي صدر من 30 سنة، من ناحية تطور اللغة والصور بشكل خاص. ما رأيك؟
ـ إنني منذ سنوات، أدعو لما أسميته «تبريد اللغة» في الكتابة الشعرية، ذلك ان اللغة الحامية الطنانة الرنانة المزخرفة أصبحت لغة الطغاة فهم الذين يلجأون للغة التجريد والتعميم، منذ ديواني الخامس «قصائد الرصيف» (1980)، تعمق اتجاهي لكتابة القصيدة المجسدة المحسوسة التي يمكن لك أن تشاهدها، وتتحول صورها عندك الى بديل مرئي. أحب أن أكتب بالكاميرا، الصور الشعرية القابلة للتجسيد أساسية في لغتي، وأنا أرتاب في كل تجريد وتعميم وتبسيط، ان «تبريد اللغة» يدفع الشاعر الى الاقتصاد والتكثيف والنبرة الهادئة وهي عناصر لا غنى عنها في أي فن قابل للتصديق وقادر على ترك أثر في المتلقي، ويبعد الفن عن الخطابة والمباشرة. كتبت مرة ان السياسة هي عدد فناجين القهوة على مائدة العائلة، أقصد ان السياسة كالهواء تدخل حياتنا من دون استئذان، ولا ضير من أن تحركنا السياسة للكتابة فقد حركت السياسة أعظم الكتاب منذ هوميروس صاحب الإلياذة والأوديسة الى فتسوافا تشيمبورسكا، الشاعرة البولندية الحائزة جائزة نوبل قبل بضع سنوات، مرورا بمسرحيات شكسبير القائمة على مكائد الساسة والقادة والملوك، وكذلك تولستوي «الحرب والسلام» وارنست همنجواي «روائي الحرب الإسبانية» وأراجون وإيلوار والمسرحي العظيم برتولد بريخت والقائمة لا تنتهي، المهم كيف نكتب وليس عن ماذا نكتب.
  • * كيف استطعت ان تنجو من فخ شعر المقاومة في الوقت الذي تحولت قصائدك في أغلبها الى مراث؟
ـ الكتابة السياسية ليست «حراما» ولكن بشرط أن تكون «مؤثرة» خارج محيطها أيضا، أي ان تلتقي مع المشترك الانساني الأوسع، وهذه النماذج هي ما سيبقى عندما يتغير التاريخ القاسي الذي نعيشه اليوم. سأوضح أكثر، هناك قصائد تعتمد اعتمادا كليا على المشترك الخارجي بينها وبين المتلقي، فإذا قرأها شخص من خارج هذه الدائرة المشتركة فشلت في التأثير فيه فشلا كاملا، وبالتالي فهي قد لا تعني شيئا للأجيال اللاحقة أو لقارىء ينتمي لثقافة أخرى. أما تعبير شعر المقاومة فهو مظلة واسعة، ووضعت الصحافة العربية وبعض النقاد الذين يكتبون نقدا تضامنيا تحت هذه المظلة كل ما يكتبه الفلسطينيون، بغض النظر عن جدارته الفنية! الشعوب التي تعرضت للاحتلال الأجنبي أو للطغيان المحلي أنتجت فنونا احتجاجية بعضها استطاع ان يعيش بعد زوال ظرفه التاريخي الضاغط، وأن يحتفظ بجدارته الفنية، وبعضها الآخر لا قيمة له غير دوره المحدود زمانا ومكانا وضاع من الذاكرة. إنني أرتاب في كل التصنيفات والدمغات التي تلصق بالشاعر، فهذا يصنفك حسب موقفك السياسي وحده، وآخر يصنفك حسب شهادة ميلادك لتصبح من شعراء التسعينات أو الستينات أو السبعينات، ألخ وهذا أمر يدعو الى السخرية.
  • * قرأت لك من قبل قولك: «أنه من الأفضل للشعر أن يختفي النقاد». ما سبب هذا الموقف؟
ـ إنني أثق بذائقة القارىء أكثر مما أثق بذائقة الناقد، بل أزعم ان معظم نقادنا، «لا يعرفون» كيف يقرأون قصيدة، حتى من باب الاستمتاع الشخصي! أقول معظمهم ولا أقول كلهم حتى لا أسقط في التعميم. هذا ما استخلصته من قراءاتي لكتاباتهم حول عشرات الشعراء والدواوين والقصائد، وهم معذورون في اضطرابهم هذا، فالمجتمعات التي تنعدم فيها الحرية لا تنتج نقادا. ان الشاعر أو الرسام أو حتى الروائي والمسرحي يستطيع أن يكتب داخل زنزانة، والمجتمع القمعي، يحتاج الى صحافة حرة، وجامعات حرة، ودور نشر تحترم قيمة ما الى جانب الربح التجاري. ان دور النقد الأدبي المعافى يشتمل على ركنين، هما الهدم والبناء، نعم الناقد يحتاج الى حرية تسمح له، على سبيل المثال، بأن يحطم أصناما أدبية كاذبة من دون أن يخاف من ردود الفعل، وهذا ما لا نعثر عليه، بل ان كثيرا من نقادنا يعمل على تكريس المكرس وتبجيل المبجل حتى لو كان بلا قيمة فنية، والناقد عليه أيضا أن يتحسس التيارات الجديدة والمغامرات الخارجة عن المألوف، ويدرس ما لها وما عليها بعيدا عن أفكاره المسبقة ليساهم بذلك في بناء ذائقة طازجة. لكن واقعنا يقول ان الكثير من نقادنا يسارع الى وصف هذه التيارات بأنها «هدامة»، تماما كما يفعل وزراء الداخلية. الناقد الفاشل يريد أن يرى في الفن الصيغة «الجاهزة» سلفا في رأسه هو. المسألة الأخرى أن كثيرين من نقادنا لا يسيطرون على أدواتهم النظرية المترجمة في كثير من الحالات ترجمة بائسة فيفصلون بين النص والسياق، بين الشاعر والعالم، لقد سبقني الى هذا الراحل الكبير ادوارد سعيد عندما كتب ساخرا من الناقد الببغاء بقوله: «حسنا، هذا ما قاله فوكو، فما الذي تقوله أنت؟».
  • * لماذا لجأت في ديوانك الأخير الى استدعاء الاسطورة العالمية والتراث غير العربي؟
ـ لا أتحدث عن الاسطورة لأقدم عبرها واقعنا كما كان يفعل جيل الرواد، أنا أفعل العكس تماما فما أحاوله هو أنني أتلمس واقع حياتنا الراهنة، هنا والآن، فأكتشف اقترابه من الأسطورة. أنظر معي الى كوارثنا وبطولاتنا ومآسينا ومساخرنا الراهنة، ستجد ان الأسطورة الآن تمشي في شوارعنا، الأساطير ليست على «جبل الأولمب» ولا في معبد دلفي، انها تحت ركام منازلنا المهدمة على رؤوسنا وأشجار زيتوننا، بين أسنان الجرافات، تحمل أمهاتنا لموت الأحبة واحدا بعد الآخر. واضطرار الكائن الحي لقتل نفسه احتجاجا، أساطير هوميروس وشكسبير تهون أمام ما نعيشه قرب بيتي وبيتك كل يوم منذ مائة عام! هكذا استخدم الأسطورة استخداما عكسيا.
  • * بدايات القصائد، ونهاياتها عندك تبدو نقطة تميز لديك، احدى لبنات بنائك الشعري؟
ـ نهايات القصائد العربية يجب أن تدرس دراسات نقدية جادة اذا أردنا أن نتعرف على بناء تلك القصائد، وعلى دلالاتها بل أضيف على ضرورتها اصلا فلا تنتهي دلالة القصيدة إلا مع سطرها الأخير الذي يستحيل اضافة كلمة واحدة بعده، وكما ينبغي أن تبدأ القصيدة من نقطة ما، عليها أن تنتهي عند نقطة ما، النهايات الاعتباطية للقصائد هي من علامات تعثر الصنيع الشعري واضطراب القول.
  • * «رأيت رام الله»، هل هو رواية، أم نص شعري، أم سيرة ذاتية، أم نص عن العودة الى المكان، أم نوع من كتابة الحنين؟
ـ «رأيت رام الله» ظهر حتى الآن في سبع طبعات عربية ومثلها تقريبا بلغات أجنبية وكل ناشر وضع على غلاف الكتاب تصنيفا غير الآخر، رواية، مذكرات، تاريخ، الشرق الأوسط، فلسفة، شعر، الخ. أما بالنسبة لي فهو مجرد سيرة ذاتية، وهو ليس كتابا عن العودة فقط، بل عن ثلاثين عاما من حياة المنافي أيضا.
  • * يتحدث الكثيرون عن القضية الفلسطينية، وانها حولت شعراءها الى «بكائين على الاطلال». ما الذي فعلته هذه القضية بك، خاصة ان أول قصيدة لك نشرت يوم 5 يونيو (حزيران) 1967؟
ـ الشعراء الفلسطينيون كغيرهم من شعراء العالم قدموا كثيرا من الشعر الجيد وقدموا كثيرا من الشعر الرديء، وهذه حال الكتابة الطبيعية في كل الثقافات ومن ضمنها الثقافة العربية. لا أميل الى تركيز كل بلد عربي على شعرائه، فنحن ننتمي الى الثقافة العربية ونكتب باللغة العربية وهاتان لا يملكهما أي بلد عربي بمفرده، أما الكتابة عن القضايا الكبرى عموما وعن المأزق الوجودي الفلسطيني والصراع مع اعداء الأمة بشكل خاص فتحمل مخاطر عديدة ان لم ينتبه لها الشعراء أفسدت عملهم كله، البعض لجأ للخطابة، وهي فن قائم بذاته لكنها ليست شعرا كما تعرف. والبعض لجأ للهذيان من دون تحويله الى شكل فني، وهو أمر يخص العيادات النفسية ولا يخص فن الشعر. والبعض قدم اقتراحات متميزة والبعض يكتب أفضل من سواه وهذا أيضا طبيعي، والكتابة السياسية تصبح فنا اذا كانت، متأصلة في الادراك الشخصي للشاعر، وتسقط بعد وقت قصير اذا ظلت كتابة تعميمية أو مباشرة.
  • * لو عدنا الى «رأيت رام الله» نجد ان السردي والشعري يتداخلان ليقدما نصا واحدا ممتعا، هل قصدت بهذا كتابة ما يسمى بتبادل أو تفاعل الأنواع؟
ـ في الكتاب نوعان من الشعر: الأول هو مقاطع من قصائد منشورة في دواويني السابقة، وهذه اقتضتها عملية البناء من حيث المزج المقصود بين أشكال التعبير المتعمدة، أما النوع الآخر فهو ذلك السرد المعتمد على التكثيف والتصوير والاقتصاد اللغوي والدقة في اختيار المفردات، وكما أشرت سابقا فالشعرية يمكن ان تكون مبثوثة في ثنايا السرد كما هي مبثوثة في الفيلم السينمائي والمسرحية واللوحة والتمثال بل وفي سلوكنا الجسدي والاجتماعي أيضا.

ليست هناك تعليقات: