الثلاثاء، 19 يوليو 2016

تركيا: الجيش لم ينقلب .. وأردوغان لم ينتصر - نبيل عمرو

تركيا: الجيش لم ينقلب .. وأردوغان لم ينتصر


بقلم : نبيل عمرو 


شاءت الأقدار أن أكون شاهد عيان على العديد من الانقلابات الناجحة والفاشلة، فإلى جانب الانقلابات الكثيرة التي حدثت في سورية حيث كنت أدرس هناك، شهدت انقلاباً في لبنان قاده ضابط اسمه عزيز الاحدب، وبعد ساعة من تلاوة بيانه عبر الإذاعة اللبنانية الرسمية تحول الى حدث كوميدي، لم يعلق في ذاكرة اللبنانيين سوى ساعات قليلة.

اما الانقلاب الذي غير مجرى التاريخ فقد كنت واقفاً بالقرب من الساحة التي هزمته وهزمت بذلك النظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي كله، كان انقلاباً أدته الدولة السوفياتية بكل رموزها، وشارك فيه قادة الحزب الشيوعي الحاكم آنذاك، وقادة أجهزة ومؤسسات الدولة الحديدة، إلا انه فشل فشلاً ذريعاً رغم امتلاء موسكو بالدبابات ولقد شاهدت بأم عيني وأنا اقف على الجسر القريب من ذلك المبنى المسمى بالبيت الأبيض ويقع فيه مقر يلتسين، كيف استدارت الدبابة الضخمة بمدفعها باتجاه آخر، وكيف دعا قائدها المفترض به أن يقصف المقر يلتسين لاعتلائها وإلقاء خطاب أمام الجماهير التي احتشدت في الباحة الخارجية، رفض فيه الانقلاب وهتف فيه بحياة روسيا واستدعى غورباتشوف الذي كان يقضي إجازة في احد المنتجعات الفاخرة وقام
بإذلاله في استجواب مهين، نقل على جميع شاشات التلفزيون في موسكو وغيرها.

كما شاهدت بأم عيني الصبية وهم يتقافزون فوق الدبابات التي كانت مرعبة للعالم كله، ويلتقطون الصور مع جنودها وضباطها فما كان من القائد العسكري الأعلى للاتحاد السوفياتي إلا أن اطلق النار على نفسه بعد أن امتهن شرفه العسكري.

ولقد حدث في إسطنبول وأنقرة شيء يشبه ذلك إلى حد ما، مع اختلاف جوهري في الزمان والمكان ونوعية المشاركين في الانقلاب والمناوئين له.

راقبت فصول ما حدث في تركيا عبر الشاشات، ونظراً لخبرتي كشاهد عيان لانقلابات عديدة، فما لاحظته وبصورة أولية أن المؤسسة العسكرية التركية لم تخطط ولم تنفذ انقلاباً جدياً لأنها لو فعلت ذلك لكان السيد أردوغان إما وراء القضبان أو ضيفاً مقيماً في إحدى الدول.

أما وقد اختلف الجنرالات الكبار واختلف الانقلابين مع زملائهم في الشرطة والمخابرات، وبعد أن وجد الانقلابيون أنفسهم عالقين داخل شبكة من الادانات الداخلية والدولية لمبدأ الانقلاب العسكري، أسقط في يدهم لتتوالى وقائع انهيار المحاولة وعودة المنقلب عليه إلى موقعه في السلطة بعد ساعات قليلة.

غير أنني وقد تابعت التعليقات الكثيرة حول ما حدث لا أوافق على فكرة أن أردوغان صار أقوى مما كان عليه قبل المحاولة. الذين ذهبوا في التحليل إلى هذا الاتجاه خلطوا بين الرفض الجماعي للانقلاب والقبول بأردوغان سلطاناً على تركيا.

الذي حدث في هذا الامر بالذات أن الطبقة السياسية التركية والجزء المعارض منها، اضطروا للاختيار بين السيئ والأكثر سوءًا، فبالنسبة للمعارضة فالسيئ هو فردية أردوغان التي تتكرس بوسائل ديموقراطية، والاسوأ استبدال نظامه بنظام جنرالات عانت منهم تركيا الأمرين في عهود الانقلابات الحمراء والبيضاء على السواء.

السيد أردوغان الذي كان قد امتلأ بغرور القدرة المطلقة، عاد إلى المشهد بخطاب انتقامي وسلوك تطهيري لواحد من أكبر جيوش العالم، وكأنه كان ينتظر فرصة من هذا النوع ليحول هذا الجيش الى ميليشيا طيعة لسلطته الشخصية والحزبية.

لم يسقط أردوغان بالمفهوم التقليدي للسقوط، إلا أن تركيا سقطت في متاهة جديدة ربما تكون أقسى وأمر من المتاهة التي وقعت فيها تركيا في زمن الربيع العربي، فدولة بوزن تركيا لا يصح منطقياً أن تتخذ سياسة مرتجلة أدت الى خسارتها جميع دول الجوار وبذات الارتجال تراجعت عن سياستها لتستدير دورة كاملة الى الوراء.

ومع بقاء أردوغان وحزبه في السلطة تحت ساتر الديموقراطية ، ومع مضيه قدماً فيما وصفه شخصياً بعملية تطهير الجيش الكبير من "الخونة" الذين برتبة جنرالات وأقل قليلاً، فمن غير المنطقي ولا العقلاني أن يُقيَّم ما يجري الان كما لو أنه شوكة تم اقتلاعها وانتهينا بل إن المرجح دخول تركيا بصورة أو بأخرى نفقاً مظلماً لا يعرف عمقه ومداه، فليس في المدينة إلا محاولة الانقلاب بل هنالك أمور أخرى تجهز المسرح التركي لانطلاقها.

ليست هناك تعليقات: