الثلاثاء، 18 ديسمبر 2012

الضربة الأخيرة - لبنى ياسين

قصة الضربة الأخيرة  - الأديبة لبنى ياسين
لم يعدْ السيافُ مسرورٌ مسروراً مما قامتْ به يداه، باتَ الأحمر أرقهُ، وبدأ يخافُ تلكَ النظرات الدامية التي رآها في عيون منْ قتلهنَ، تاركةً أخاديدَ عميقة في ذاكرةِ الليالي المضرجةِ، وصارَ مزاجهُ حاداً، وفارقهُ النومُ إلى غير رجعةٍ، وأخيراً اتّخذَ قرارهُ، سيعلنُ العصيانَ، سيستقيلُ من عملهِ، وسوفَ يتسلقُ جدرانَ الحكايةِ ليثورَ عليها، وهكذا مضى دونَ زوادةٍ  تذكرُ إلا غضبه، وبدأ يسيرُ منتهكاً  فطنةَ النهاياتِ، ميمماً نحوَ البدايةِ، وحدها البدايات يمكنها أنْ تمنحهُ خياراً آخرَ ليغيِّـرَ مسارهُ، ربما يصبحُ بحاراً فتهيمُ بهِ ابنة ملكِ البحار، أو قدْ يصبح راعيَ غنمٍ، فتتمايلُ زهراتُ السوسنِ راقصةً لتراتيلِ نايهِ، وقدْ يصيرُ طباخاً فيجد الخاتمَ السحريَّ في بطنِ سمكةٍ، ما الذي وجدهُ هو في مسيرتهِ الطويلةِ طيلةَ ألف ليلةٍ وليلة، سوى الدمِ والكرهِ ورائحةِ العفن؟! هذا عدا عيونٍ ترمقهُ بازدراءٍ، وتدَعي أنَّ خبزَ قوتهِ مغمسٌ بالدم، حسناً، ربما كانوا على حقٍ، فرغمَ أنـَّهُ ترعرعَ في بيتِ الملكِ، وعلـَّمه أبوهُ -السياف الراحل- كيفَ يقطعُ الرقابَ مذ كانَ طفلاً صغيراً، عندما أجبرهُ على ذبحِ حمامةٍ كان يربيها، ويطعمُها حتى آنستْ لهُ..ثم ُأجْبِرَ على ذبحِها، لكن..أيةُ فضيلةٍ يملكها من يقتلُ الناسَ دونَ سببٍ واضحٍ سوى نزوةِ ملكٍ مجنون؟  ربما عليهِ أنْ يصبحَ طبيباً ليكفـِّرَ عنْ مؤازرتهِ للموتِ بمحاربتهِ له.
في طريقهِ نحو البداية، متسلقاً السطورَ سطراً وراء آخر، تعثرَ  بإشارةِ تعجبٍ كادتْ تودي بحياتهِ، عندها فقط، وعلى منعطفٍ لا يودي إلا إلى الضفةِ الأخرى، حيثُ يتخلصُ المرءُ من جسده، ويعتلي شرفاتِ السماء بروحٍ شاردةٍ، فطنَ مسرورٌ إلى قيمةِ الحياة، وأدركَ أنَّ ما كان ينتزعهُ دونَ حقٍ من نساءٍ حملنَ جريرةَ الجمالِ، ودفعنَ ثمنهُ، كانَ أثمنُ بكثيرٍ من نزوةِ مليكه، وكيفَ لنزوةِ رجلٍ نزقٍ، لا يكادُ يفكرُ، أنْ تساوي أرواحَ كل تلكَ الجميلات؟ أو حتى القبيحات؟.
بعد أيامٍ من السيرِ وحدهُ، تعبَ مسرورٌ، وقررَ أنْ يقيلَ في خانٍ قريب، لكنَّ صاحب الخانِ ما أنْ رآهُ حتى اصفرَ لونهُ، وازرقتْ شفتاه، وهاجمهُ بقوةٍ، إذْ صادفَ أنَّ ابنة صاحبِ الخان كانتْ إحدى جميلاتِ شهريار اللاتي قُتلنَ على يدِّ السياف.
ارتعدَ السيافُ للمرةِ الأولى في حياتهِ، كيفَ لا؟ وهو الآنَ يتبادلُ الدورَ مع ضحاياهُ، ويقابلُ رجلاً غاضباً، وفي يدهِ مدية يكادُ لمعانُ حدّها يضيءُ الخان، بذراعينِ أعزلين، بعد أنْ رمى سيفَهُ وفرّ بحياتهِ منْ غضبِ شهريارعندما يتناهى إلى سمعهِ أنّ سيافهُ لمْ يعدْ يريدُ أنْ يقتلَ أحداً..لا بدَّ وأنـَّهُ سيأمرُ بقتلهِ لو واجههُ..لم يكنْ أمامهُ سوى الفرار تاركاً السيفَ المرصعَ خلفهُ لئلا يُتهم بسرقته، تماماً كما فعلَ في الخان، عندما فرَّ بحياتهِ من وجهِ الأبِ الغاضب.
هنا تحديداً ولهذا السبب، حلقَ مسرورٌ لحيتهُ السوداء، هذَّبَ شاربه، رتبَ هندامه، وغيَّر حلـَّته، حتى أنهُ عندما وقفَ أمامَ المرآةِ شهقَ، وكادَ يهوي بيدهِ على الرجلِ المقابلِ له، لولا أنْ أدركتهُ تلكَ الشامة على خدهِ، ففهمَ أنَّ هذا الرجل المهندم اللطيف ليس سوى..سيافٍ مستقيلٍ.
كان مسرورٌ ينكرُ بكلِّ ما أوتي من قوةٍ- حتى بينهُ وبينَ نفسهِ - أنهُ أحبَ شهرزاد، لم تكنْ كبقيةِ النساءِ اللواتي قتلهنَ، فقدْ صادفَ أنْ استمعَ لحكاياها، وهو يحرسُ البابَ، وعندما طرقَ صوتُها مسمعهُ، شعرَ برعشةِ نبرةِ ذلكَ الصوت الرقيق وهو يحكي عنْ تفاصيلِ هذه القصة أو تلكَ، وانتبهَ إلى ارتفاعِ وتيرتهِ عندَ المنعطفاتِ الصعبة، وخفوتهِ لدى الحديث عن الحبِ، وأنينهِ عندما يتحدثُ عن الفراقِ، ولوعتهِ عندما يمرُّ الموتُ بينَ تفاصيلِ الحكايةِ، فكيفَ يمكنُ لهُ أنْ يتظاهرَ بأنهُ لا يعرفُها، ويرفعُ السيفَ في وجهٍ ينحتُ تقاسيمَ رقِّتهِ في ذاكرةِ العشقِ كل يومٍ وهو يصارعُ النومَ لعلهُ يغفو على ضفافِ حلمٍ مستحيلٍ؟!
ومسرورٌ هذا، رغمَ أنهُ يتسلحُ بالسيفِ، والقسوةِ، وبملامحهِ الجافةِ، إلا أنَّـهُ رجلٌ بأيِّ حالٍ، وفي جوفهِ قلبٌ ينبض، لم يكنْ يعلمُ عنْ وجودهِ شيئاً، إلا عندما زُفتْ شهرزادُ إلى شهريار، وبدأتْ حكاياتِها الأولى، وعندما تحدثتْ عن الحب، انتفضَ شيءٌ ما في صدرهِ، فأدركَ أنَّ لديهِ قلبٌ، وأنَّ الأخير قررَ أنْ يمارسَ فعالياتهِ شاءَ صاحبهُ أم أبى، منْ يومها، وهو يسترقُ السمعَ إلى الحكايا دونَ أنْ يفطنَ أحدٌ إلى وجودهِ أو يهتمَ لهُ، لم تكنْ الحكايةُ بحدِّ ذاتِها تعنيهِ في شيء، إلا أنَّ صوتَ الراويةِ كان يجعلُ قلبه يتمايلُ طرباً، ويحملهُ على شفاهِ الغيم إلى جنةٍ لم يدركْ وجودها من قبل..فيتساءلُ بينهُ وبينَ نفسه: إذا كانَ الحبُ بهذهِ العذوبة وهذا الجمال، لماذا يصرُّ سيدي على قتلهِ؟ إلا أنَّه لمْ يجدْ يوماً جواباً شافياً لسؤالهِ.
وعندما اقتربتْ شهرزادُ من نهايةِ الألف ليلة، تلبَّسهُ الخوفُ حتى ارتداهُ تماماً، ماذا لو أنَّ سيده أمرَ بقتلِ شهرزاد؟ كيفَ يمكنهُ أنْ يرفعَ السيفَ ويهوي بهِ على عنقها النديّ؟ كيف يمكنُ أنْ يقتلَ محبوبته؟ وكيفَ يهبُ الموتَ لمنْ وهبتْ لهُ الحياةَ، وجعلتهُ يدركُ يوماً أنَّ قلباً في صدرهِ يوشكُ أنْ ينبضَ بمشاعرَ لم تعتريهِ منْ قبل، بعدَ أنْ كانَ مؤمناً بأنهُ مخلوقٌ منْ نوع ٍآخر لا مكانَ للمشاعرِ في جوفه.
أكملَ مسرورٌ سيرهُ، واجهتهُ إشارةُ استفهامٍ، لم يعرفْ كيفَ يستدير حولها، فعطلتْ سيرَهُ لأيام، أما النقطة فقدْ شاكستهُ حتى أضنته، لكن الفاصلة كانتْ أكثر تساهلاً، بل وأرشدتهُ إلى الاتجاهِ الذي يجبُ عليهِ أنْ يسيرَ بهِ ليصلَ إلى وجهتهِ في أقربِ وقت، فقد علمتْ بقصتهِ، وأرادتْ لهُ خاتمةً أخرى تليقُ بخفقانِ قلبهِ، كانتْ تؤمنُ بأنَّ للإنسانِ حقٌ في ارتكابِ الأخطاء، وله الحقُ أيضاً في التراجعِ عن أخطائهِ، وكانتْ تردِّدُ على مسامعِ أصدقائِها: لو أنَّنا أقصينا كل مخطئٍ ورمينا بهِ خارجَ السطورِ، لفقدتْ الحكايةُ متنَها ومعناها، وضاعتْ التفاصيلُ الجميلةُ، وانتهى مفعولُ النقطةِ والفاصلةِ، وربما بقيتْ علامتا التعجبِ والاستفهامِ  فقط  قيدَ العملِ.
وأخيراً وصلَ مسرورٌ إلى البدايةِ، عندها أدركَ أنَّ سيدهُ لم يكنْ سوى رجلٍ متألمٍ بسببِ الخيانةِ، وعندما حاولَ أنْ يمحوَ تلكَ الحادثةِ البشعةِ، واجهتهُ الحكايةُ، ومنعتهُ من العبثِ في جسدها، واتهمتهُ بالتحرشِ، فتراجعَ على عجلٍ خوفاً منْ أنْ يُقصَّ رأسهُ بسيفِ سيافٍ آخر..فمنْ يستطيعُ الوقوفَ في وجهِ الحكاية، وهي التي تملكُ من حيلِ النساءِ أدهاها، ومنْ كيدهنَّ أعظمه؟!.
وهكذا اعتذرَ مسرورٌ من الحكايةِ، وطلبَ منها أن تغيِّرَ دوره، وأخبرها أنه لا ِقبـَـلَ له على قتلِ شهرزاد، واعترفَ لها في آخرِ الأمرِ أنّه يحبها، ولا يريدُ شيئاً سوى أنْ يتأكدَ منْ أنَّها تعيشُ سعيدةً في كنفِ مليكها، فهو يدركُ أنـَّه مجردُ سيافٍ مستقيل، ومن جهةٍ أخرى، يعلمُ تماماً أنَّ شهرزاد أحبتْ مليكها منذ الليلةِ الأولى، وفي جميعِ الحالاتِ، لا يمكنُ لهُ أنْ يجعلَ شهريارَ يتحملُ عبءَ خيانةٍ أخرى، فربما أبادَ بعدها نساءَ المدينةِ جميعاً حتى المولوداتِ حديثاً، من يستطيعُ التكهنُ بما يمكنُ أنْ يتمخضَ عنهُ عقله المريض مدعوماً بسلطتهِ المطلقة كملكٍ لا يوجدُ منْ يستطيعُ الوقوفَ في وجههِ؟!
رقَّت الحكايةُ لقلبِ مسرور العاشق، ومنحتهُ فرصةً واحدة، أخبرتهُ بأنَّها ستتركهُ يتجولُ في ربوعها صامتاً، شريطةَ ألا يتدخلَ في مسارِ الأحداث التي يمرُّ بها، حتى يجدَ ما يناسبهُ من  عمل.
فرحَ مسرورٌ بفرصتهِ، وقررَ أنْ يستغلها بأفضل ما يمكن، لن يبوحَ بقرارهِ حتى يقلـِّبَ جميعَ الأعمالِ أمامَ عينيه، ويختار ما يناسبهُ بشكلٍ مؤكد، وفيما هو يسيرُ في السوق، سمعَ صوتَ شهرزادهُ تصرخُ مستغيثةً، ركضَ باتجاهِ الصوت، فوجدَ سيافاً آخرَ يجرّها من شعرِها ليقتلها، لم يتمالكْ مسرورٌ نفسهُ فاستلَّ السيفَ من الغمدِ الذي يضعهُ السيافُ على خاصرتهِ، السيفُ المرصعُ ذاته الذي اعتادَ أنْ يحزّ رقابَ الجميلاتِ به، وقطعَ رأسَ السيافِ في ساعتها، وسرعانَ ما قامتْ  شهرزاد، واختبأتْ خلفَ رداءِ مسرور، دونَ أنْ تدركَ أنهُ السياف الذي هربَ من القصر، قهقهت الحكايةُ عالياً وهي تقول: أرأيتَ يا مسرور..أنتَ سياف..لا تستطيعُ أنْ تفعلَ شيئاً سوى القتل.
فأجابها : بل أستطيعُ يا سيدتي..ألا ترين؟!!، لقد حررتُ شهرزادَ للتوّ من يدِ السياف..ومنحتها حريتها...ولم يبقَ في جعبتكِ سيافٌ بعد أنْ قتلتُ آخرهم بسيفه، ..ستتدبرين أمرَ الليالي القادمةِ دونَ موتٍ يذكر!! فكيفَ ستفعلينَ ذلكَ سيدتي؟
أطرقتِ الحكايةُ وقدْ أعياها الجواب، وقتئذ كانتْ شهرزاد تتشبثُ بردائه، سعيدة بأنَّها أخيراً وجدتْ فارسها النبيل.
لوحة بعنوان سوريا يا حبيبتي -  الأديبة لبنى ياسين

ليست هناك تعليقات: