الكرمل ونظرية الاستقبال في الأدب العربيّ!
آمال عوّاد رضوان
|
منتدى الحوار الثقافيّ في مركز البادية- عسفيا الكرمل افتتحَ عامَهُ الجديدَ بلقاءٍ أدبيٍّ ثريّ، حول كيفيّة ممارسة المحادثة والحوار في تعزيز حرّيّة الإنسان، من خلالِ كتاب "نظريّة الاستقبال في الرواية العربيّة"، للباحثة د. كلارا سروجي شجراوي، المحاضرة في جامعة حيفا.
استهلّ اللقاءَ الشاعر رشدي الماضي بكلمةٍ ترحيبيّة بعنوان" مع كلارا سروجي على قمّةِ الصمت:
الكلمة هي أمّ فنون القول العربيّ، رغم أنّها مرّت على امتداد العقود بأطوارٍ تتفاوت بين روعة المدّ، ولوعة الجزر والانحسار، ومرارة الانكسار. الحقّ أنّ الكلمة العربيّة تجتاز اليوم واحدًا من المنعطفات الحادّة في مسيرتها، تعكسه روح العصر، والإيقاع الحضاريّ السريع، ونبض التغيّر اليوميّ في الوسائل التقنيّة وثورة المعلوماتيّة ومستحدثاتها، وهو نبضٌ يلهث إنسان العصر وراءَه.
ولأنّ الكلمة هي ذلك النتاج الإبداعيّ الخلّاق، تصبح عمليّة القراءة بالنسبة لها، لا يراد بها تلك القراءة السريعة، بغية المتعة العابرة أو الاستطراف أو التسلية، كما لا يُراد بها استقبال تلك الكلمة استقبالًا تلقائيًّا، نابعًا من الذوق الشخصيّ وحده، بل يُقصد بها ذلك الجهد الواعي الذي تمارسه الذات المثقفة، حين تتلقى الكلمة كعمل أدبيّ، فتحاول إدراك العلاقات التي تربطه بمَثل أعلى خاصّ، كما تحاول اكتشاف كلّ أو بعض معطياته الجماليّة، نافذةً من خلال ذلك إلى إيماءاته النفسيّة والفكريّة، ومن ثمّ قد ترتقي عمليّة التذوّق إلى درجة النقد المنهجيّ، أو فنّ تمييز الأساليب، وهذا يُثري ساحتنا الأدبيّة بمناقشات نقديّة مستفيضة في مفهوم الأدب، وطرق استقباله وتقبّله، ليشكّل بالنتيجة الرائعةَ الحقيقيّة لتنمية وعي الإنسان ذوقًا وإبداعًا.
هذا الحوار برأيي المتواضع لم ولن يُحسم، وما كان له أن يُحسم، فالخلاف النظريّ حول قضيّة الاستقبال لم يُفضِ إلى اتفاق وجهات النظر والرأي حول مفهوم موحّد، أو شبه موحّد لهذه النظريّة في الأدب، وترتّب على هذا، أنّ مشكلة منهج التذوّق الأدبيّ ما زالت قائمة، فالعمل الإبداعيّ تدخّلُ في محاولات الوعي به تشكيلةٌ من العوامل النسبيّة، مثل ثقافة من يريد سبر أغواره ومعالمه، ومكوّنات ذوقه الخاصّ، وإلهامات زمنه ومحيطه الاجتماعيّ وانتماءاته المختلفة.. إلخ
هذا غيضٌ يسيرٌ من فيض غزير للأسئلة والتساؤلات حول نظريّة الأدب وكيفيّة استقباله، وهو مُحفّزنا الذي نادانا أن ندعو باحثة أكاديميّة بامتياز، لا يُرعبها الطير الأسود في ليل إبحارها في عباب العمل الإبداعيّ، بل يوقظها قاربًا وصارية وبوصلة، كزرقاء اليمامة رائية، لا تخشى أن تسكن خلال رحلتها السندباديّة، إن سكّن الصمت مجدافها، لأنّها شاء الصمت هذا أم أبى، ستواصل رحلة قراءتها للعمل الأدبيّ قراءة أوركستراليّة شاملة، لتضع باصرتنا وبصيرتنا على المنابع التي استقى منها هذا الإبداعُ روائعَه شكلًا ومضمونًا، ونحن حين نفتح وثيقة هُويّتها، سوف لن نجد اسمَها عنترة، بل كلارا سروجي شجراوي، الباحثة والمحاضرة الأكاديميّة في جامعة حيفا.
وقدّم د. فهد أبو خضرة محاضرة نوعيّة جاء فيها:
سأتحدّث أوّلًا عن منشورات مجمع القاسمي للغة العربيّة، من أجل الحصول على بعض هذا الإنتاج لمن يرغب، فقد أقيم المجمع القاسمي قبل أربع سنوات، وخلال هذه المدّة كان فعّالًا جدًّا، وقد أصدر حتّى الآن 22 كتابًا، كلّها من الأبحاث الجادّة جدًّا، وكلّ الإصدارات مُحكّمة، فكلّ كتاب يُرسل إلى قارئيْن على الأقلّ، وإذا وافق عليه القارئان المُتخصّصان يُنشر الكتاب، وإلّا عاد إلى صاحبه.
ومن الإصدارات الهامّة بالإضافة إلى كتاب "نظريّة الاستقبال لد. كلارا سروجي شجراوي"، أيضًا هناك قاموس يضمّ اللغة العربية المعاصرة واللغة التراثيّة المستعملة، وفيه بحدود ثلاثين ألف كلمة. صدر طبعة متوسّطة لأسباب نشر وغير أسباب التأليف، ولكنّه سيُنشر في لبنان قريبًا جدًّا، ومن هناك سيصل الينا وإلى الدول العربيّة. وكذلك هناك قاموس المصطلحات، الذي سيُصدر قريبًا جدًّا في البلاد، والذي يضمّ مصطلحات الأدب ومصطلحات اللغة العربيّة، فلمن يهمّه الأمر، يستطيع أن يتّصل بالمجمع القاسمي، لحصل على بعض المنشورات التي تهمّه، والتي ما زالت متوفّرة.
مجمع القاسمي أيضًا يُصدر "مجلة المَجمع" النصف سنويّة، وقد صدر حتّى الآن العدد السادس، وهيئة وإدارة المجلة تتقبّل دراسات في الأبحاث الجادّة والقيّمة، وأيضًا المجلة مُحكّمة. بالإضافة إلى الإصدارات، هناك مؤتمرات أدبيّة فصليّة كلّ شهريْن أو ثلاثة، وبحضور كبير ومدهش، يتعدّى المئتيْن والثلاث مئة.
بخصوص كتاب كلارا نظريّة الاستقبال، فأطراف العمل الأدبي ثلاثة: المبدع والنصّ والمُتلقّي. وقد بدأ النقد في أوروبّا في أواخر القرن التاسع عشر، بالحديث عن المبدع والعصر والبيئة وما أشبه، ممّا يُطلق عليه اليوم اسم "النقد الخارجيّ"، ولكن بعد ذلك في القرن العشرين، بدأ الاتّجاه إلى النصّ، وهذا أخد وقتًا طويلًا، وهو نقد له قيمته وأهمّيّته، وفي بداية الستين بدأ الاتّجاه الثالث نحو المتلقّي، أو نظريّة الاستقبال التي وصلت إلينا متأخّرا، ومن هنا أتحدّث عن قضيّة الأزمة التي نراها في بلادنا وفي العالم العربيّ، بالنسبة لحركة النقد، فهناك عندنا نقّاد ولكن ليس لدينا نقد، لأنّ كلّ النقد منذ أوائل القرن العشرين، بما في ذلك طه حسين والعقاد وغيرهم، فالنقد مأخوذ من مصادر غربيّة، ونحن نأخذ نظريّات غربيّة ونُطبّقها، فهذا ما حدث وما يحدث، وحتى في أحسن حالات النقد في سنوات الأربعين والخمسين من القرن الماضي، كانت كلّ النظريّات مأخوذة من الغرب، فطه حسين استخدم نظريّة فرنسيّة، والعقاد استخدم نظريّة إنجليزيّة، وآخرون كُثر، كنوع من الاحتلال النقديّ! النقد له قيمة كبيرة، فإمّا أن يرفع شاعرًا ما، أو يحط من قدر شاعر آخر، وأحيانًا بانتباهٍ وأحيانًا بغير انتباه، لأنّه ليس من نقدٍ غربيّ ينطبق على أدبنا العربيّ.
وملاحظة أخرى مهمّة، أنّ مدارس النقد كلّها وصلتنا متأخّرة جدّا، بعد ثلاثين وأربعين سنة، وكان الزمن أحيانًا يمتدّ أكثر، فمثلًا نظريّة الاستقبال ظهرت في أوروبّا عام 1960، وبدأنا ترجمتها في أواخر 1998، وهذه مشكلة! فلماذا يجب أن يسيرَ النقد العربيّ بأعقاب النقد الغربيّ؟
ولأنّ الأمرَ هذا يؤثّر سلبًا على الإبداع العربيّ، لهذا أقول، إنّنا بحاجةٍ ماسّة إلى إعادة دراسة أدبنا المَحلّيّ مرّة أخرى، فكلّ الدراسات السابقة هي دراسات غير صحيحة، وفيها الكثير من التزييف، وكذلك الأدب العربيّ يجب أن يُدْرَسَ مرّة أخرى، فهناك أعلام ممتازون جدّا في العالم العربيّ لا يُذكرون، وهناك شخصيّات سخيفة جدًّا أخذت دورًا كبيرًا جدًّا، وما زالت أسماؤُها موجودة حتى اليوم.
التركيز برأيي يجب أن يكون على النصّ، لأنّنا درسنا الشاعر والبيئة والعصر والظروف الخارجيّة، ولكنّنا لم ندرس النصّ جيّدًا، وقبل أن نبدأ بدراسة قراءة النصّ، ظهرت لنا نظريّة الاستقبال، فقفزنا إليها، وأحسن النقاد لا يجيدونها ولا يعرفون عنها شيئًا، ويُطبّقونها بشكل سلبيّ لأنّهم لا يعرفونها جيّدًا، وهذا سيكون له آثارٌ سلبيّة جدًّا على نتاجنا الأدبيّ، لأنّنا نتعلّم عادة من نُقادنا، وقليل جدًّا منهم من يقرؤون المصادر الغربيّة، وإنّما يقرؤون ما يكتبه النقاد العرب.
التركيز الأساسيّ يجب أن يكون على النصّ أوّلا، كي نكمل الحلقة التالية من دراسة التلقي، فهذا لا يعني أنّ العرب لم يعرفوا التلقي من قبل، إنّما لم يعرفوا النظريّة، بل أشاروا إليها بلمحات بلاغيّة أو ومضات رومنسيّة، وعمليّة الانتقال من دراسة النصّ إلى دراسة التلقي أوقعنا في مشكلة، إذ لم نجد هذه ولا تلك، وهذا قد يقودنا إلى الضياع، فأرجو أن ينتبه الباحثون جيّدًا إلى هذه النقطة، وحبّذا لو أنّ د. كلارا تستطيع أن تتابع الموضوع عند النقاد، أي بحث نظريّة الاستقبال في النقد العربيّ مجدّدًا، حيث ستجد الكثير من النواقص عند هؤلاء النقاد، فأحدهم مثلًا حاول أن يُطبّق نظريّة الاستقبال على شعر المتنبّي، والأمر لا يخطر ببال، فلذلك وجدنا ثلاثة أرباع المادّة لا علاقة لها بنظريّة الاستقبال، وأقلّ من ربع الكتاب فيه بعض الملاحظات من هنا وهناك، من نظريّات التلقي والاستقبال.
في النقد الغربيّ، نجدهم يُركّزون على الدراسات النصّيّة، لذلك نجد المتلقّي للنصّ الأدبيّ هذا غيرَ محدود الأفق، وإنّما واسع الآفاق، يستطيع أن يُحلّل ويُؤوّل النصّ بشكل مناسب ويتفاعل معه، فعلينا أن نُطوّر قضيّة قراءة ودراسة ونقد النصّ بتوسّع، ومن ثمّ بعد ذلك، لا بأس من دراسة قضيّة الاستقبال، بعد أن يهضمها الناقد ويفهمها جيّدًا.
وفي محاضرة د. كلارا سروجي شجراوي بعنوان: نظريّة الاستقبال (Reception Theory) لهانز روبرت ياوس جاء:
ظهرت "جماليّة الاستقبال" (Rezeptionsästhetik) جنبًا إلى جنب مع "جماليّة الاستجابة والتأثير" Wirkungsästhetik))، أو ما عُرف بنظريّة استجابة القارئ، في جامعة كونستانس في ألمانيا الغربيّة، أواخر الستينيّات وأوائل السبعينيّات من القرن الماضي. أنشأ هانز روبرت ياوس (Hans Robert Jauss) الاتّجاه الأوّل في النقد الأدبيّ، بينما درس زميله في الجامعة فولفجانج إيزر (Wolfgang Iser) استجابة القارئ الفرد للنصّ الأدبيّ.
عُرف الباحثون والنقاد في جامعة كونستانس بتوجّههم الليبراليّ، وقد عملوا بالتعاون مع جامعات أخرى في ألمانيا، وشاركوا في أبحاث تتطلّب تفاعلًا وتبادلًا للمعلومات مع ميادين أخرى، مثل التحليل النّفسيّ، الأنتروبولوجيا، السوسيولوجيا، التاريخ، والفلسفة. كما كوّنوا علاقات عالميّة، خاصّة مع فرنسا والولايات المتّحدة.
من الصّعب الفصل بشكل حادّ بين نظريّة الاستقبال ونظريّة استجابة القارئ، فاستقبال العمل الأدبيّ يتناول أيضًا دراسة استجابة جمهور القرّاء، وتأثيرهم في تشكيل الذائقة الأدبيّة لحقبة ما. لقد عمل ياوس وإيزر في بداية طريقهما كطاقم واحد، إلّا أنّهما اتّخذا اتّجاهًا متباينًا فيما بعد. فالاثنان يريان أنّ العمل الأدبيّ هو حدث (event) وليس موضوعًا ثابتًا. ولكن، على عكس إيزر الذي يتمركز حول استجابة القارئ الفرد في مواجهته للنصّ الأدبيّ، فإنّ ياوس يشدّد على التجربة التراكميّة لجمهور القرّاء في زمن تاريخيّ معيّن، أو على استجابة الجمهور العامّة للأدب في عصر معيّن.
تعتبر نظريّة الاستقبال ثورة على أشكال البحث التقليديّة المحافظة، بدعوتها إلى إعادة تقييم النصوص في المعتمد الأدبيّ لشعب ما، وإعادة تأريخها من جديد، بعد دراسة لديالكتيك إنتاج النصوص واستهلاكها، ومن ثمّ التفاعل المتبادل بين النصوص وجمهور القرّاء عرضيّا وطوليّ،ا (سينخرونيّا ودياخرونيّا).
علاوة على ذلك، طالبت بمقاربة نقديّة تتغلّب على ثنائيّة الداخليّ/الخارجيّ، التي عانت منها الشكلانيّة الروسيّة والماركسيّة، مؤكّدة على أهميّة المزايا الفنيّة والشكليّة المجدّدة في النصّ، لكن دون أن تعزل العمل عن التاريخ الاجتماعيّ والسياسيّ والجغرافيّ والحضاريّ.
بالنسبة إلى ياوس، نحن بحاجة إلى استعادة الصّلة الحيويّة بين أحداث الماضي واهتمامات الحاضر، حين ندرس نصّا أدبيًّا في سياقه التاريخيّ. هكذا يكون تأريخ الأدب سيرورة ديناميكيّة ومستمرّة في التشكّل، فيه تواصُل مستمرّ بين النصوص التي قبِلَت في السّابق والنصوص الجديدة، ممّا يسمح بالانفتاح والتغيّر المستمرّين. إنّ تأريخًا جديدًا وناجحًا للأدب يقوم على دراسة التفاعل المتبادل بين النصّ وجمهور القرّاء، لأنّه تأريخ لعمليّة استقبال الأعمال الأدبيّة. هذا الأمر يستدعي، بشكل مستديم، إعادة النظر في الأعمال الأدبيّة المعتمدَة على ضوء التأثير المتبادل بينها وبين ما يستجدّ من ظروف وأحداث. عندها يُحقّق الأدب معناه وقيمته، باعتباره مصدرًا هامًّا يتوسّط بين الماضي والحاضر، من خلال سعيه الدؤوب إلى تجاوز الزمكانيّة التي نشأ فيها أوّل مرّة.
إنّ أهمّ مصطلح تقوم عليه نظرية ياوس هو "أفق التوقّع"، الذي سبقه إليه عالِم الاجتماع كارل مانهايم. أخذ ياوس المصطلح من أستاذه جادامر(Gadamer) الذي تكلّم عن "انصهار الآفاق"، فالفهم عند جادامر عمليّة يتداخل وينصهر فيها أفق الحاضر مع أفق الماضي. لم يقدّم ياوس تعريفًا دقيقًا لما يقصده بـ "أفق التوقع"، لكن يُفهم من مقاله “Literary History as a Challenge to Literary Theory”، بأنّه نسق من المرجعيّات يستحضره شخص افتراضيّ، حين يواجه نصّا من النصوص. يتوجّه القارئ إلى النصّ مُحمَّلًا بأفق توقّع ما، وبعد أن يقرأ العمل ويتفاعل معه، يتأثر به ويؤثّر عليه، قد يجد أنّ العمل يتناسب مع أفق توقّعه، أو يُفاجأ بأنّ العمل يتنافر، ويُخيّب أفق توقعاته.
إنّ ياوس غير معنيّ بالقارئ الفرد الواحد، كعامل مسيطر في عمليّة التواصل بينه وبين النصّ، إنّما بالقارئ الذي يعكس أفق توقّعات مَن حوله في بيئته وفي زمنه. لذا تأتي استجابة جمهور القرّاء لعمل أدبيّ ما وتأويلاتهم المختلفة له، في زمكانيّة واحدة مشتركة، "متوافقة" إلى حدّ ما، أو هي لا تتناقض مع بعضها البعض إلى حدّ التنافر الكلّيّ، بل تعكس ذائقة الجمهور العامّة في تلك الحقبة.
إنّ المصطلح الثاني الهامّ في جماليّة الاستقبال هو "المسافة الجماليّة" بين العمل والأفق. في حال حقّقَ العمل الأدبيّ أفق توقّعات القرّاء، بما يتناسب مع بيئتهم الثقافيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة، فإنّهم يرضون عنه ويقبلونه، أي أنّ "المسافة الجماليّة" بين أفق التوقّعات والعمل قصيرة. لكن، إنْ تطلّب النصّ تكييفًا أو تغييرًا لتوقّعات القرّاء، فإنّ المسافة الجماليّة تكون ذات معنى، وتتميّز بدور فعّال. في هذه الحالة، تعمل "المسافة الجماليّة" كمقياس لتحديد القيمة الأدبيّة.
النصوص التي تخلق مسافة جماليّة طويلة، منتهِكة أفق توقع القرّاء هي التي تهمّ ياوس، لأنّها ذات وظيفة مفصليّة في تأريخ الأدب. التحديث والتجريب والانحراف والانزياح عن المعايير، الذي يُقدّمه أيّ نصّ أدبيّ جديد، يُشعر القرّاء بعدم اليقين، ويتركهم قلقين مضطربين، وبالتالي يُؤثّر على أفق توقّعاتهم. عندها يتحدّد موقف الجمهور من العمل الأدبيّ الجديد: إمّا أن يغيّر الجمهور أفقه، حتّى يكون العمل مقبولًا، (فتتحقّق مرحلة في التلقّي الجماليّ)، أو أن يرفض الجمهور العمل، فيبقى العمل مهمَلًا حتى يُقبَل في فترة لاحقة. هذا يعني أنّ حركة الانتقال هي من النصّ إلى القرّاء.
بهذا المفهوم، النصّ يسبق القرّاء في أفق توقّعاتهم، ويؤكّد على دور الأدب الفعّال في تغيير ذائقة الجمهور. فالنصّ الأدبيّ الذي لا يستجيب لأفق التوقّعات السّائد، يلعب دورًا فعّالًا عندما يضع الأعراف الاجتماعيّة موضع التساؤل، داعِيًا إلى تغييرها. للأدب قدرة على تغيير الواقع الموجود، فهو يؤثر على خبراتنا الحياتيّة، ويُغيّر من طريقة إدراكنا للأمور. لذا، ليس الأدب موضوعًا للجَمال الفنّيّ أو الاستطيقي فحسب، بل هو يؤثر كذلك على القيم الاجتماعيّة والأخلاقيّة.
بالنسبة إلى ياوس، هناك ضرورة لإعادة الحيويّة إلى التاريخ الأدبيّ، وذلك بالتخلّي عن النموذج التقليديّ القديم، الذي يرتكز على المؤلّف والنصّ، واستبداله بآخَر يُركّز على العلاقة الجدليّة بين الجمهور والنّصّ، عبرَ أجيال متعاقبة ومتزامنة. هكذا يكون الأدب مُفسِّرا للدلالتيْن؛ التاريخيّة والفنيّة اللتيْن هما في حالِ تَشكُّلٍ ديناميكيّ مستمرّ.
ملاحظة: لقد فضّلتُ استخدام مصطلح "جماليّة الاستقبال" على مصطلح "التلقي" (المألوف والمتداول في النقد الأدبيّ) كترجمة حرفيّة للمصطلح الذي وضعه هانز روبرت ياوس مؤسّس هذه النظرية، وهو: (Recepzionästhetik). وذلك لأنّ كلمة "استقبال" في اللغة العربيّة، تبدو مناسبة جدًّا للتعبير عن هذه النظرية. فمن نفس المصدر نشتقّ الأفعال قَبِلَ، أقبل، تقبّل. ومن الواضح أنّ ثمّة اختلافا في الدلالة بين هذه الأفعال. فـ "قبِلَ" تدلّ على قبول الشيء بسرور ودون تحفظ. أمّا الفعل "أقبل" فيدلّ على التوجّه والميل إلى شيء ما مع الرّغبة فيه. أمّا الفعل "تقبّل" فيدلّ على تأقلم مع وضع جديد، وقبول مشروط لا يخلو من تحفظ. تشترك هذه الأفعال جميعها، بأنّها تؤشّر على استجابة فرد أو مجموعة لشيء ما.
تحْمِل عمليّة الاستقبال بمعناها الإيجابيّ، قبولًا للآخر (بما في ذلك النصّ الأدبيّ)، بمتعة وسرور ورغبة به، حين تتناسب مع أفق التوقع، أو تدلّ، بمعناها السّلبيّ للاستقبال، على امتعاض ونفور من الآخر (النصّ)، وإغفال له حين يخرق أفق التوقع. وقد ينتج عن اللقاء بين الأنا والآخر (القارئ والنصّ مثلا)، تغَيُّرٌ يُفضي إلى تكييف الذات القارئة، كي تتقبّل وتتفهّم جماليّة النصّ الجديد، الذي يخرق المعايير السّائدة ويُخالفها، وبذلك يتغيّر أفق التوقع لوجود مسافة جماليّة (aesthetic distance) بعيدة المدى.
كلّ هذه الاستجابات الإنسانيّة الممكنة واردة أو محتملة في استقبالنا لعمل أدبيّ أو فنّيّ ما. كذلك تُبيّن "جماليّة الاستقبال" طبيعة التعامل بين طرفيْن: جمهور القرّاء والعمل الأدبيّ. والطرفان في هذا التعامل فعّالان بقدر ما، يتبادلان من تأثر وتأثير، ويتغيّران بعد فعل القراءة، وهذا أمر طبيعيّ في كلّ تفاعل متبادل بين طرفيْن. وعند استقبالنا لأيّ نصّ أدبيّ، تلعب الزمكانيّة وسياق الاستقبال دورًا مركزيًّا، على نحو ما يحدث في الواقع عند استقبالنا للآخرين.
لا نستطيع أن نعزل ذواتنا القارئة عن تاريخها وذاكرتها الجماعيّة، وعن ثقافتها وسيكولوجيّتها وزمكانيّتها، عندما تلتقي بالنصّ الأدبيّ، الذي له هو أيضًا بيئته الحضاريّة والتاريخيّة والاجتماعيّة والزمكانيّة الخاصّة.
نخلص إلى القول، إنّ هناك عواملَ كثيرةً قد لا نعيها دائمًا، تؤثر عند استقبالنا للعمل الأدبيّ، وكلّها تعمل في نشاط دائب ودائم.
الاختلاف في قراءات العمل الأدبيّ الواحد: يفسّر ياوس ظاهرة الاختلاف بين القراءات، مُعتمِدًا على مصطلَحَي "النموذج" و"أفق التوقّعات". حسب فيلسوف العلم كُون(T. S. Kuhn) ، فإنّ العلماء في فترة زمنيّة معيّنة، يعملون بحسب نموذج خاصّ من الفرضيّات والأفكار. لكن، ما أنْ يَستنفذ النموذج ذاته، وذلك حين يجد العلماء أنفسهم في مواجهة مشاكل عديدة، لا قِبَل لهم على حلّها بحسب هذا النموذج، حتى ينشأ نموذج جديد.
بشكل مشابه، حسب ياوس، فإنّ القرّاء والكتّاب في فترة معيّنة، يقرؤون ويكتبون بحسب مجموعة من الفرضيّات والمُسلّمات التي تسيطر على ممارستهم هذه. تتضمّن الفرضيّات ما له علاقة بالأدب، مثل الأسلوب والشكل والجنس الأدبيّ، وما له علاقة بسياقات الأدب، مثل البيئة والعادات الكلاميّة والأحزاب السياسيّة والاجتماعيّة. إنّ القرّاء المعاصرين لعمل أدبيّ ما، يقرؤونه بحسب أفق التوقعات المسيطر في عصرهم. وقد يكون هذا الأفق مشترَكًا للقرّاء وللمؤلّف. فإنْ كان كذلك سَهُل فهم المؤلف وتأويله. لكنّ تباعُدَ الزمن بين المؤلّف وقرّائه، قد يُصعّب عمليّة الفهم والتأويل، وذلك بسبب اختلاف أفق القرّاء الحاليّ المعاصِر عن أفق المؤلّف، البعيد زمنيًّا عنهم بمجموعة فرضيّات مجتمعه ومسلّمات عصره. وقد يحدث العكس، عندما يكتب كاتب ما بطريقة يُخالف النموذج المسيطر في فترته. عندها يجب أن تنتظر أعماله الأدبيّة جيلًا لاحقًا من القرّاء، لكي يفهموها ويُقدّروها. إذن، هناك نصوص تُساهم في تشكيل أفق توقّعات لاحق.
من هنا كانت نظرية ياوس معنيّة بتفسير التغيّر والثورة في التاريخ الأدبيّ. ولكن، كيف يمكن لقارئ اليوم أن يفهم عملًا أدبيًّا قديمًا؟ الجواب على ذلك يكون في متابعة هذا القارئ للقراءات المختلفة في الفترة التي سبقت زمنه، ليجد التفسير الذي يتناسب مع تفسيره، وليكتشف بدوره ما يُمكنه أن يُضيف إلى هذا النصّ بقراءته الخاصّة.
هنا نعود لمفهوم جادامر (Gadamer) عن "انصهار الآفاق". فمعنى النصّ غير محدود بمقاصد المؤلّف، بل هو يتمدّد ويتوسّع بشكل مستمرّ في القراءات اللاحقة للعمل. وبالتالي، يؤكّد جادامر على التمَوْضُع التاريخيّ للقارئ. فكلّنا مخلوقات تاريخيّة نجلب معنا هويّاتنا المرتبطة بزماننا في كلّ ما نقوم به. وكلّ موضوع ندرسه لا يُمكن أن نفصله عن ذاتيّتنا، ومن هنا لا يُمكن أن ننفي انحيازنا، فالحياديّة مجرّد وَهْم.
كلّ ما يُمكن أن نصل إليه عند دراستنا لتعاقب الآفاق والقراءات المختلفة لعمل أدبيّ ما، هو "انصهار" هذه الآفاق. فقراءتي تتحوّل إلى تأكيد أو إلى أداة مُنَظِّمة في خِضمٍّ من المنظورات المعقدة للآفاق. والانصهار بين الآفاق المختلفة يتمّ بشكل حتميّ، إمّا عن وعي أو دون وعي. من هنا تأتي أهميّة تأريخ الأدب من خلال دراسة متعمّقة للنصوص الأدبيّة، لأنّ للأدب قدرة في تشكيل معاييرنا وقيمنا الاجتماعيّة والأيديولوجيّة.
كيفيّة تطبيق النظريّة على القراءات المتزامنة والمتعاقبة: تمثّل كلّ قراءة نقديّة جمهورًا أو فئة من القراء في زمكانيّة ما. على الباحث الذي يدرس ظاهرة القراءات المتزامنة والمتعاقبة، أن يحدّد أوّلًا التوجّه الأساسيّ للقراءة النقديّة، بمعنى؛ ما هو السؤال الرّئيس الذي تجيب عنه.
على سبيل المثال في دراستي لثلاثيّة نجيب محفوظ، اخترتُ عدّة قراءات نقديّة، وبعد ذلك قمت بكتابة قراءتي التي تناسبت في بعض الأمور مع القراءات السابقة، واختلفت مع قراءات أخرى. فقرّاء محفوظ في الستينات من القرن الماضي، لا بُدّ أن يختلفوا في قراءتهم للثلاثيّة عن قرّاء القرن الواحد والعشرين. وممّا يُلفت النظر وجود تشابه بين قراءات الفترة الواحدة، وهذا لا نكتشفه إلّا لاحقًا في فترة متأخرة. كما لفتَ نظري أنّ القراءات الأولى لمحفوظ قد خالطها الانفعال والانبهار، وكأنّ الثلاثيّة تقدّم أفق حلّ منشود لأزمة اجتماعيّة وسياسيّة، ولم تمنع هذه القراءات نفسها عن التعبير بإعجابها بهذا العمل، كفتح أدبيّ في الرواية كجنس أدبيّ، بينما ركّزت القراءات اللاحقة على بناء الثلاثيّة، وكان تناولها لها أكثر علميّة وعقلانيّة. وقارئ اليوم لن يهتمّ بحزب الوفد ولا بالحزب الشيوعيّ، بل سيهتمّ بحزب الإخوان المسلمين، لأنّه مرتبط بعصرنا. كما أنّ ثورة 1919 لن يكون لها دلالة، إلاّ كرمز لكلّ شعب يطالب بتحرّره من كلّ ظلم أو استعمار.
قمتُ بعرض ستّ قراءات قد اخترتها بشكل مقصود، فكلّ قراءة تحاول تسليط الضوء على جانب من جوانب الثلاثيّة بشكل خاصّ، ولكنّنا مع ذلك سنجد التشابه بينها في بعض الأمور، كأن تكون شخصيّة كمال انعكاسًا لشخصيّة المؤلّف وأفكاره ووفديّته، أو أن تكون العائلة هي البطل، أو التأكيد على دوْر الزمن في تغيير الأسرة والمجتمع. أمّا قراءتي فتناولت ناراتيف الحبّ بأنواعه ودلالاته المختلفة في ثلاثيّة نجيب محفوظ، كلّ قراءة تعبّر عن موقف فئة محتمَلَة من فئات جمهور القرّاء. فنجيب سرور الذي سافر إلى الاتحاد السوفياتي ليتلقى تعليمه، يمثّل كثيرين من شبّان تلك الفترة الذين رأوا في الدولة الاشتراكيّة خلاصًا من الظلم وانتصارًا حتميًّا، بحسب الجدليّة التاريخيّة لطبقة البروليتاريا. آمنوا بمساواة المرأة بالرجل ونادوا بها، وهم مشرّبون بأفكار انجلز وماركس، مؤمنون بها كأنّها حقيقة مطلقة، دون أن يعملوا على كشف الثغرات في النظريّة.
أمّا غالي شكري المسيحيّ، فقد تُفهَم قراءته على أساس أنّها تعبّر عن لهفة الأقباط في مصر لتغيير في النظام السياسيّ، لا يُنظَر فيه للمواطنين على أساس دينهم. وَعْيُ غالي شكري بفشل حزب الوفد (الذي ضمّ الأقباط)، جعله يركّز على الحزب الشيوعيّ كأن فيه الحلّ/البديل المنشود.
أمّا نبيل راغب فهو يمثل جماعة من النقّاد العرب، الذين يدّعون استقلاليّتهم وتحرّرهم من المناهج والمصطلحات والمعطيات النظريّة، التي وضعها النقاد الغربيّون، كي يحرّر النقد العربيّ من هيمنة المقاييس الغربيّة. إلاّ أنّه، في الواقع، يستخدم نفس مصطلحات الغربيين: الوحدة العضويّة، التشكيل الدرامي، الصراع الدرامي والحبكة.
إنّه يهدف إلى دراسة العمل الفني كوحدة حيّة مستقلّة بذاتها، بعيدًا عن نظريات وضعها الغربيّون عن الرّواية، كجنس أدبيّ وعن أنماطها المختلفة، بينما هو ينهج نهجهم دون أن يذكر مصادره الأجنبيّة. فهو يميّز في أعمال نجيب محفوظ أربع مراحل شكليّة أساسيّة، يخصّص لكلّ مرحلة فصلًا. هذه المراحل هي: المرحلة التاريخيّة، المرحلة الاجتماعيّة، المرحلة النفسيّة المبتورة، والمرحلة التشكيليّة الدراميّة.
يتساءل الناقد حميد لحمداني بحقّ: كيف استطاع نبيل راغب أن يتوصّل إلى هذا التصنيف، دون أن يخضع لمقاييس جاهزة عن مفهوم الرّواية الرّومانسيّة، ومفهوم الواقعيّة ومفاهيم علم النفس ومفهوم الشّكل الدّرامي؟
قراءة ساسون سوميخ تمثل جماعة المثقفين اليهود، من أصل عربيّ (عراقيّ) الذين أتقنوا اللغة العربيّة، باعتبارها لغة الأم الأولى لهم، كما اكتسبوا ثقافة أجنبيّة غربيّة. لذلك استطاعوا تناول الأعمال الأدبيّة العربيّة بحسّ لغويّ مرهف، وعقل نَهَلَ من الثقافة الغربيّة دون أن تفقدهم اتصالهم بجذورهم الأولى التي جاؤوا منها. لذا جاءت قراءته تمتاز بنظامها العلميّ المدروس والمكثف، دون أن تفقد نشوتها الجماليّة بالعمل الأدبيّ لغويّا وبنائيّا.
قراءة سيزا قاسم القيّمة للثلاثيّة تُمثل أحسن تمثيل جماعة النقاد، الذين يتّخذون لهم تيارا نقديّا غربيّا محدّدًا، يحسنون دراسته، ثمّ يحاولون تطبيقه على عمل أدبيّ ما. دراستها تعتمد على البنيويّة، ولذلك جاءت قراءتها مرتبطة بالعمل الأدبيّ، في مكوّناته الداخليّة فقط، دون النظر إلى السّياق التاريخيّ والجغرافيّ للعمل. بسبب اختيارها للمنهج البنيوي جاءت قراءتها بعيدة جدّا عن أيّ لمحة ذاتية، وبدون إطلاق أحكام تُقيّم العمل، فاتسمت كتابتها بالموضوعيّة الجافة، التي لا تُشعر القارئ بجمالية النصّ الأدبيّ المدروس.
أمّا فيصل درّاج، الناقد الفلسطينيّ، فقد آلمني الطابع السوداويّ الكئيب الساخر اللاذع، الذي يغلّف به جوّ الثلاثيّة. هل يمكن اعتبار المعاناة المتواصلة للشعب الفلسطينيّ عاملا في رؤية العمل الأدبيّ، كتعبير عن ألم كلّ إنسان ومعاناته، في هذا الكون المتأزّم الذي يغلي بشروره ومصائبه؟ ألا يُثبت ذلك أنّ انتماءنا للوعيّ الجماعيّ الخاصّ بشعبنا، لا بُدّ أن يؤثر في نظرتنا إلى الأشياء وتفسيرنا لها؟
موديل لتطبيق نظريّة الاستقبال: لقد وضع ياوس ذائقة الجمهور في أساس قياس نجاح العمل الأدبيّ، ورواجه في زمكانيّة معيّنة. إلاّ أنّ ما كان ناقصًا في نظريّته هو كيفيّة قياس هذه الذائقة ميدانيّا.
لقد اهتمّ ياوس بالمعايير النصيّة الداخليّة، باعتبارها مؤشّرًا على معالم نجاح النصّ الأدبيّ، معتمدًا على الدراسات النقديّة التي سبقته حول نصّ يريد معالجة رواجه ونجاحه، قبل أن يقدّم قراءته هو للنصّ الأدبيّ. لكنّ نظريّة تضع في أساسها جمهور القرّاء، يجب أن تأخذ بالحسبان الهُويّات المختلفة للقرّاء، كما يجب أن تقدّم موديلًا يسمح بفحص ردود الفعل الموضوعيّة الخارجيّة على العمل الأدبيّ.
التقصير في هذا الجانب يجعل نظريّة الاستقبال ضعيفة في الممارسة التطبيقيّة، وذاتيّة الممارسة كغيرها من النظريّات الأدبيّة. في هذه الحال لن تكون قادرة على تقديم جديد في هرمنيوطيقا العمل الأدبيّ، خاصّة وأنّ بذور نظريّة الاستقبال كانت موجودة في المناخ الفلسفيّ لألمانيا قبل أن يطوّرها ياوس.
من هنا يأتي إسهامنا في تحويل نظريّة ياوس إلى منهج يصلح تطبيقه بشكل عمليّ، على عيّنات أدبيّة. يتميّز الموديل المقترح بالمرونة، لأنّه يتعامل مع العمل الأدبيّ ككائن حيّ، له خصوصيّاته التي يتفرّد بها، إلى جانب الملامح العامّة التي يشترك بها مع الأعمال الأخرى. الدراسة الحاليّة تطبيق لهذا الموديل الذي استطاع أن يُحوّل نظرية ياوس، ذات الطابع الفكريّ التجريديّ، إلى ممارسة فعّالة تساهم في تقديم قراءة جديدة للروايات المدروسة، كما ينجح في دراسة العمل الأدبيّ كمنتوج له سوقه الخاصّ من المستهلكين، الذين يُقبلون عليه أو يرفضونه أو يتجاهلونه.
معايير نصيّة داخليّة:
الشّكل: نفحص ما يلي: بناء الشخصيات، الرّاوي وأشكال التبئير، الزمكانيّة، انغلاق النصّ وانفتاحه، اللغة، خطاب العنوان وسيمياء الغلاف.
المضمون: نفحص ما يلي: الحوار، الوصف، الأفكار والمشاعر والمواضيع، الأحداث.
القراءات المتزامنة والمتعاقبة للنقاد، والقراءة الأحدث الآخذة بعين الاعتبار ناحيتي الشّكل والمضمون.
في نهاية اللقاء كانت مداخلات للزملاء والزميلات، ثمّ احتفالاً بأعياد ميلاد كلّ من د. بطرس دلة وآمال عواّاد رضوان وآمال أبو فارس، الذي صادف 16-1-2013.
للتوسّع انظر: كلارا سروجي شجراوي. نظرية الاستقبال في الرّواية العربيّة الحديثة: دراسة تطبيقيّة في ثلاثيّتيّ نجيب محفوظ وأحلام مستغانمي. باقة الغربيّة: أكاديميّة القاسمي، 2011.
استهلّ اللقاءَ الشاعر رشدي الماضي بكلمةٍ ترحيبيّة بعنوان" مع كلارا سروجي على قمّةِ الصمت:
الكلمة هي أمّ فنون القول العربيّ، رغم أنّها مرّت على امتداد العقود بأطوارٍ تتفاوت بين روعة المدّ، ولوعة الجزر والانحسار، ومرارة الانكسار. الحقّ أنّ الكلمة العربيّة تجتاز اليوم واحدًا من المنعطفات الحادّة في مسيرتها، تعكسه روح العصر، والإيقاع الحضاريّ السريع، ونبض التغيّر اليوميّ في الوسائل التقنيّة وثورة المعلوماتيّة ومستحدثاتها، وهو نبضٌ يلهث إنسان العصر وراءَه.
ولأنّ الكلمة هي ذلك النتاج الإبداعيّ الخلّاق، تصبح عمليّة القراءة بالنسبة لها، لا يراد بها تلك القراءة السريعة، بغية المتعة العابرة أو الاستطراف أو التسلية، كما لا يُراد بها استقبال تلك الكلمة استقبالًا تلقائيًّا، نابعًا من الذوق الشخصيّ وحده، بل يُقصد بها ذلك الجهد الواعي الذي تمارسه الذات المثقفة، حين تتلقى الكلمة كعمل أدبيّ، فتحاول إدراك العلاقات التي تربطه بمَثل أعلى خاصّ، كما تحاول اكتشاف كلّ أو بعض معطياته الجماليّة، نافذةً من خلال ذلك إلى إيماءاته النفسيّة والفكريّة، ومن ثمّ قد ترتقي عمليّة التذوّق إلى درجة النقد المنهجيّ، أو فنّ تمييز الأساليب، وهذا يُثري ساحتنا الأدبيّة بمناقشات نقديّة مستفيضة في مفهوم الأدب، وطرق استقباله وتقبّله، ليشكّل بالنتيجة الرائعةَ الحقيقيّة لتنمية وعي الإنسان ذوقًا وإبداعًا.
هذا الحوار برأيي المتواضع لم ولن يُحسم، وما كان له أن يُحسم، فالخلاف النظريّ حول قضيّة الاستقبال لم يُفضِ إلى اتفاق وجهات النظر والرأي حول مفهوم موحّد، أو شبه موحّد لهذه النظريّة في الأدب، وترتّب على هذا، أنّ مشكلة منهج التذوّق الأدبيّ ما زالت قائمة، فالعمل الإبداعيّ تدخّلُ في محاولات الوعي به تشكيلةٌ من العوامل النسبيّة، مثل ثقافة من يريد سبر أغواره ومعالمه، ومكوّنات ذوقه الخاصّ، وإلهامات زمنه ومحيطه الاجتماعيّ وانتماءاته المختلفة.. إلخ
هذا غيضٌ يسيرٌ من فيض غزير للأسئلة والتساؤلات حول نظريّة الأدب وكيفيّة استقباله، وهو مُحفّزنا الذي نادانا أن ندعو باحثة أكاديميّة بامتياز، لا يُرعبها الطير الأسود في ليل إبحارها في عباب العمل الإبداعيّ، بل يوقظها قاربًا وصارية وبوصلة، كزرقاء اليمامة رائية، لا تخشى أن تسكن خلال رحلتها السندباديّة، إن سكّن الصمت مجدافها، لأنّها شاء الصمت هذا أم أبى، ستواصل رحلة قراءتها للعمل الأدبيّ قراءة أوركستراليّة شاملة، لتضع باصرتنا وبصيرتنا على المنابع التي استقى منها هذا الإبداعُ روائعَه شكلًا ومضمونًا، ونحن حين نفتح وثيقة هُويّتها، سوف لن نجد اسمَها عنترة، بل كلارا سروجي شجراوي، الباحثة والمحاضرة الأكاديميّة في جامعة حيفا.
وقدّم د. فهد أبو خضرة محاضرة نوعيّة جاء فيها:
سأتحدّث أوّلًا عن منشورات مجمع القاسمي للغة العربيّة، من أجل الحصول على بعض هذا الإنتاج لمن يرغب، فقد أقيم المجمع القاسمي قبل أربع سنوات، وخلال هذه المدّة كان فعّالًا جدًّا، وقد أصدر حتّى الآن 22 كتابًا، كلّها من الأبحاث الجادّة جدًّا، وكلّ الإصدارات مُحكّمة، فكلّ كتاب يُرسل إلى قارئيْن على الأقلّ، وإذا وافق عليه القارئان المُتخصّصان يُنشر الكتاب، وإلّا عاد إلى صاحبه.
ومن الإصدارات الهامّة بالإضافة إلى كتاب "نظريّة الاستقبال لد. كلارا سروجي شجراوي"، أيضًا هناك قاموس يضمّ اللغة العربية المعاصرة واللغة التراثيّة المستعملة، وفيه بحدود ثلاثين ألف كلمة. صدر طبعة متوسّطة لأسباب نشر وغير أسباب التأليف، ولكنّه سيُنشر في لبنان قريبًا جدًّا، ومن هناك سيصل الينا وإلى الدول العربيّة. وكذلك هناك قاموس المصطلحات، الذي سيُصدر قريبًا جدًّا في البلاد، والذي يضمّ مصطلحات الأدب ومصطلحات اللغة العربيّة، فلمن يهمّه الأمر، يستطيع أن يتّصل بالمجمع القاسمي، لحصل على بعض المنشورات التي تهمّه، والتي ما زالت متوفّرة.
مجمع القاسمي أيضًا يُصدر "مجلة المَجمع" النصف سنويّة، وقد صدر حتّى الآن العدد السادس، وهيئة وإدارة المجلة تتقبّل دراسات في الأبحاث الجادّة والقيّمة، وأيضًا المجلة مُحكّمة. بالإضافة إلى الإصدارات، هناك مؤتمرات أدبيّة فصليّة كلّ شهريْن أو ثلاثة، وبحضور كبير ومدهش، يتعدّى المئتيْن والثلاث مئة.
بخصوص كتاب كلارا نظريّة الاستقبال، فأطراف العمل الأدبي ثلاثة: المبدع والنصّ والمُتلقّي. وقد بدأ النقد في أوروبّا في أواخر القرن التاسع عشر، بالحديث عن المبدع والعصر والبيئة وما أشبه، ممّا يُطلق عليه اليوم اسم "النقد الخارجيّ"، ولكن بعد ذلك في القرن العشرين، بدأ الاتّجاه إلى النصّ، وهذا أخد وقتًا طويلًا، وهو نقد له قيمته وأهمّيّته، وفي بداية الستين بدأ الاتّجاه الثالث نحو المتلقّي، أو نظريّة الاستقبال التي وصلت إلينا متأخّرا، ومن هنا أتحدّث عن قضيّة الأزمة التي نراها في بلادنا وفي العالم العربيّ، بالنسبة لحركة النقد، فهناك عندنا نقّاد ولكن ليس لدينا نقد، لأنّ كلّ النقد منذ أوائل القرن العشرين، بما في ذلك طه حسين والعقاد وغيرهم، فالنقد مأخوذ من مصادر غربيّة، ونحن نأخذ نظريّات غربيّة ونُطبّقها، فهذا ما حدث وما يحدث، وحتى في أحسن حالات النقد في سنوات الأربعين والخمسين من القرن الماضي، كانت كلّ النظريّات مأخوذة من الغرب، فطه حسين استخدم نظريّة فرنسيّة، والعقاد استخدم نظريّة إنجليزيّة، وآخرون كُثر، كنوع من الاحتلال النقديّ! النقد له قيمة كبيرة، فإمّا أن يرفع شاعرًا ما، أو يحط من قدر شاعر آخر، وأحيانًا بانتباهٍ وأحيانًا بغير انتباه، لأنّه ليس من نقدٍ غربيّ ينطبق على أدبنا العربيّ.
وملاحظة أخرى مهمّة، أنّ مدارس النقد كلّها وصلتنا متأخّرة جدّا، بعد ثلاثين وأربعين سنة، وكان الزمن أحيانًا يمتدّ أكثر، فمثلًا نظريّة الاستقبال ظهرت في أوروبّا عام 1960، وبدأنا ترجمتها في أواخر 1998، وهذه مشكلة! فلماذا يجب أن يسيرَ النقد العربيّ بأعقاب النقد الغربيّ؟
ولأنّ الأمرَ هذا يؤثّر سلبًا على الإبداع العربيّ، لهذا أقول، إنّنا بحاجةٍ ماسّة إلى إعادة دراسة أدبنا المَحلّيّ مرّة أخرى، فكلّ الدراسات السابقة هي دراسات غير صحيحة، وفيها الكثير من التزييف، وكذلك الأدب العربيّ يجب أن يُدْرَسَ مرّة أخرى، فهناك أعلام ممتازون جدّا في العالم العربيّ لا يُذكرون، وهناك شخصيّات سخيفة جدًّا أخذت دورًا كبيرًا جدًّا، وما زالت أسماؤُها موجودة حتى اليوم.
التركيز برأيي يجب أن يكون على النصّ، لأنّنا درسنا الشاعر والبيئة والعصر والظروف الخارجيّة، ولكنّنا لم ندرس النصّ جيّدًا، وقبل أن نبدأ بدراسة قراءة النصّ، ظهرت لنا نظريّة الاستقبال، فقفزنا إليها، وأحسن النقاد لا يجيدونها ولا يعرفون عنها شيئًا، ويُطبّقونها بشكل سلبيّ لأنّهم لا يعرفونها جيّدًا، وهذا سيكون له آثارٌ سلبيّة جدًّا على نتاجنا الأدبيّ، لأنّنا نتعلّم عادة من نُقادنا، وقليل جدًّا منهم من يقرؤون المصادر الغربيّة، وإنّما يقرؤون ما يكتبه النقاد العرب.
التركيز الأساسيّ يجب أن يكون على النصّ أوّلا، كي نكمل الحلقة التالية من دراسة التلقي، فهذا لا يعني أنّ العرب لم يعرفوا التلقي من قبل، إنّما لم يعرفوا النظريّة، بل أشاروا إليها بلمحات بلاغيّة أو ومضات رومنسيّة، وعمليّة الانتقال من دراسة النصّ إلى دراسة التلقي أوقعنا في مشكلة، إذ لم نجد هذه ولا تلك، وهذا قد يقودنا إلى الضياع، فأرجو أن ينتبه الباحثون جيّدًا إلى هذه النقطة، وحبّذا لو أنّ د. كلارا تستطيع أن تتابع الموضوع عند النقاد، أي بحث نظريّة الاستقبال في النقد العربيّ مجدّدًا، حيث ستجد الكثير من النواقص عند هؤلاء النقاد، فأحدهم مثلًا حاول أن يُطبّق نظريّة الاستقبال على شعر المتنبّي، والأمر لا يخطر ببال، فلذلك وجدنا ثلاثة أرباع المادّة لا علاقة لها بنظريّة الاستقبال، وأقلّ من ربع الكتاب فيه بعض الملاحظات من هنا وهناك، من نظريّات التلقي والاستقبال.
في النقد الغربيّ، نجدهم يُركّزون على الدراسات النصّيّة، لذلك نجد المتلقّي للنصّ الأدبيّ هذا غيرَ محدود الأفق، وإنّما واسع الآفاق، يستطيع أن يُحلّل ويُؤوّل النصّ بشكل مناسب ويتفاعل معه، فعلينا أن نُطوّر قضيّة قراءة ودراسة ونقد النصّ بتوسّع، ومن ثمّ بعد ذلك، لا بأس من دراسة قضيّة الاستقبال، بعد أن يهضمها الناقد ويفهمها جيّدًا.
وفي محاضرة د. كلارا سروجي شجراوي بعنوان: نظريّة الاستقبال (Reception Theory) لهانز روبرت ياوس جاء:
ظهرت "جماليّة الاستقبال" (Rezeptionsästhetik) جنبًا إلى جنب مع "جماليّة الاستجابة والتأثير" Wirkungsästhetik))، أو ما عُرف بنظريّة استجابة القارئ، في جامعة كونستانس في ألمانيا الغربيّة، أواخر الستينيّات وأوائل السبعينيّات من القرن الماضي. أنشأ هانز روبرت ياوس (Hans Robert Jauss) الاتّجاه الأوّل في النقد الأدبيّ، بينما درس زميله في الجامعة فولفجانج إيزر (Wolfgang Iser) استجابة القارئ الفرد للنصّ الأدبيّ.
عُرف الباحثون والنقاد في جامعة كونستانس بتوجّههم الليبراليّ، وقد عملوا بالتعاون مع جامعات أخرى في ألمانيا، وشاركوا في أبحاث تتطلّب تفاعلًا وتبادلًا للمعلومات مع ميادين أخرى، مثل التحليل النّفسيّ، الأنتروبولوجيا، السوسيولوجيا، التاريخ، والفلسفة. كما كوّنوا علاقات عالميّة، خاصّة مع فرنسا والولايات المتّحدة.
من الصّعب الفصل بشكل حادّ بين نظريّة الاستقبال ونظريّة استجابة القارئ، فاستقبال العمل الأدبيّ يتناول أيضًا دراسة استجابة جمهور القرّاء، وتأثيرهم في تشكيل الذائقة الأدبيّة لحقبة ما. لقد عمل ياوس وإيزر في بداية طريقهما كطاقم واحد، إلّا أنّهما اتّخذا اتّجاهًا متباينًا فيما بعد. فالاثنان يريان أنّ العمل الأدبيّ هو حدث (event) وليس موضوعًا ثابتًا. ولكن، على عكس إيزر الذي يتمركز حول استجابة القارئ الفرد في مواجهته للنصّ الأدبيّ، فإنّ ياوس يشدّد على التجربة التراكميّة لجمهور القرّاء في زمن تاريخيّ معيّن، أو على استجابة الجمهور العامّة للأدب في عصر معيّن.
تعتبر نظريّة الاستقبال ثورة على أشكال البحث التقليديّة المحافظة، بدعوتها إلى إعادة تقييم النصوص في المعتمد الأدبيّ لشعب ما، وإعادة تأريخها من جديد، بعد دراسة لديالكتيك إنتاج النصوص واستهلاكها، ومن ثمّ التفاعل المتبادل بين النصوص وجمهور القرّاء عرضيّا وطوليّ،ا (سينخرونيّا ودياخرونيّا).
علاوة على ذلك، طالبت بمقاربة نقديّة تتغلّب على ثنائيّة الداخليّ/الخارجيّ، التي عانت منها الشكلانيّة الروسيّة والماركسيّة، مؤكّدة على أهميّة المزايا الفنيّة والشكليّة المجدّدة في النصّ، لكن دون أن تعزل العمل عن التاريخ الاجتماعيّ والسياسيّ والجغرافيّ والحضاريّ.
بالنسبة إلى ياوس، نحن بحاجة إلى استعادة الصّلة الحيويّة بين أحداث الماضي واهتمامات الحاضر، حين ندرس نصّا أدبيًّا في سياقه التاريخيّ. هكذا يكون تأريخ الأدب سيرورة ديناميكيّة ومستمرّة في التشكّل، فيه تواصُل مستمرّ بين النصوص التي قبِلَت في السّابق والنصوص الجديدة، ممّا يسمح بالانفتاح والتغيّر المستمرّين. إنّ تأريخًا جديدًا وناجحًا للأدب يقوم على دراسة التفاعل المتبادل بين النصّ وجمهور القرّاء، لأنّه تأريخ لعمليّة استقبال الأعمال الأدبيّة. هذا الأمر يستدعي، بشكل مستديم، إعادة النظر في الأعمال الأدبيّة المعتمدَة على ضوء التأثير المتبادل بينها وبين ما يستجدّ من ظروف وأحداث. عندها يُحقّق الأدب معناه وقيمته، باعتباره مصدرًا هامًّا يتوسّط بين الماضي والحاضر، من خلال سعيه الدؤوب إلى تجاوز الزمكانيّة التي نشأ فيها أوّل مرّة.
إنّ أهمّ مصطلح تقوم عليه نظرية ياوس هو "أفق التوقّع"، الذي سبقه إليه عالِم الاجتماع كارل مانهايم. أخذ ياوس المصطلح من أستاذه جادامر(Gadamer) الذي تكلّم عن "انصهار الآفاق"، فالفهم عند جادامر عمليّة يتداخل وينصهر فيها أفق الحاضر مع أفق الماضي. لم يقدّم ياوس تعريفًا دقيقًا لما يقصده بـ "أفق التوقع"، لكن يُفهم من مقاله “Literary History as a Challenge to Literary Theory”، بأنّه نسق من المرجعيّات يستحضره شخص افتراضيّ، حين يواجه نصّا من النصوص. يتوجّه القارئ إلى النصّ مُحمَّلًا بأفق توقّع ما، وبعد أن يقرأ العمل ويتفاعل معه، يتأثر به ويؤثّر عليه، قد يجد أنّ العمل يتناسب مع أفق توقّعه، أو يُفاجأ بأنّ العمل يتنافر، ويُخيّب أفق توقعاته.
إنّ ياوس غير معنيّ بالقارئ الفرد الواحد، كعامل مسيطر في عمليّة التواصل بينه وبين النصّ، إنّما بالقارئ الذي يعكس أفق توقّعات مَن حوله في بيئته وفي زمنه. لذا تأتي استجابة جمهور القرّاء لعمل أدبيّ ما وتأويلاتهم المختلفة له، في زمكانيّة واحدة مشتركة، "متوافقة" إلى حدّ ما، أو هي لا تتناقض مع بعضها البعض إلى حدّ التنافر الكلّيّ، بل تعكس ذائقة الجمهور العامّة في تلك الحقبة.
إنّ المصطلح الثاني الهامّ في جماليّة الاستقبال هو "المسافة الجماليّة" بين العمل والأفق. في حال حقّقَ العمل الأدبيّ أفق توقّعات القرّاء، بما يتناسب مع بيئتهم الثقافيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة، فإنّهم يرضون عنه ويقبلونه، أي أنّ "المسافة الجماليّة" بين أفق التوقّعات والعمل قصيرة. لكن، إنْ تطلّب النصّ تكييفًا أو تغييرًا لتوقّعات القرّاء، فإنّ المسافة الجماليّة تكون ذات معنى، وتتميّز بدور فعّال. في هذه الحالة، تعمل "المسافة الجماليّة" كمقياس لتحديد القيمة الأدبيّة.
النصوص التي تخلق مسافة جماليّة طويلة، منتهِكة أفق توقع القرّاء هي التي تهمّ ياوس، لأنّها ذات وظيفة مفصليّة في تأريخ الأدب. التحديث والتجريب والانحراف والانزياح عن المعايير، الذي يُقدّمه أيّ نصّ أدبيّ جديد، يُشعر القرّاء بعدم اليقين، ويتركهم قلقين مضطربين، وبالتالي يُؤثّر على أفق توقّعاتهم. عندها يتحدّد موقف الجمهور من العمل الأدبيّ الجديد: إمّا أن يغيّر الجمهور أفقه، حتّى يكون العمل مقبولًا، (فتتحقّق مرحلة في التلقّي الجماليّ)، أو أن يرفض الجمهور العمل، فيبقى العمل مهمَلًا حتى يُقبَل في فترة لاحقة. هذا يعني أنّ حركة الانتقال هي من النصّ إلى القرّاء.
بهذا المفهوم، النصّ يسبق القرّاء في أفق توقّعاتهم، ويؤكّد على دور الأدب الفعّال في تغيير ذائقة الجمهور. فالنصّ الأدبيّ الذي لا يستجيب لأفق التوقّعات السّائد، يلعب دورًا فعّالًا عندما يضع الأعراف الاجتماعيّة موضع التساؤل، داعِيًا إلى تغييرها. للأدب قدرة على تغيير الواقع الموجود، فهو يؤثر على خبراتنا الحياتيّة، ويُغيّر من طريقة إدراكنا للأمور. لذا، ليس الأدب موضوعًا للجَمال الفنّيّ أو الاستطيقي فحسب، بل هو يؤثر كذلك على القيم الاجتماعيّة والأخلاقيّة.
بالنسبة إلى ياوس، هناك ضرورة لإعادة الحيويّة إلى التاريخ الأدبيّ، وذلك بالتخلّي عن النموذج التقليديّ القديم، الذي يرتكز على المؤلّف والنصّ، واستبداله بآخَر يُركّز على العلاقة الجدليّة بين الجمهور والنّصّ، عبرَ أجيال متعاقبة ومتزامنة. هكذا يكون الأدب مُفسِّرا للدلالتيْن؛ التاريخيّة والفنيّة اللتيْن هما في حالِ تَشكُّلٍ ديناميكيّ مستمرّ.
ملاحظة: لقد فضّلتُ استخدام مصطلح "جماليّة الاستقبال" على مصطلح "التلقي" (المألوف والمتداول في النقد الأدبيّ) كترجمة حرفيّة للمصطلح الذي وضعه هانز روبرت ياوس مؤسّس هذه النظرية، وهو: (Recepzionästhetik). وذلك لأنّ كلمة "استقبال" في اللغة العربيّة، تبدو مناسبة جدًّا للتعبير عن هذه النظرية. فمن نفس المصدر نشتقّ الأفعال قَبِلَ، أقبل، تقبّل. ومن الواضح أنّ ثمّة اختلافا في الدلالة بين هذه الأفعال. فـ "قبِلَ" تدلّ على قبول الشيء بسرور ودون تحفظ. أمّا الفعل "أقبل" فيدلّ على التوجّه والميل إلى شيء ما مع الرّغبة فيه. أمّا الفعل "تقبّل" فيدلّ على تأقلم مع وضع جديد، وقبول مشروط لا يخلو من تحفظ. تشترك هذه الأفعال جميعها، بأنّها تؤشّر على استجابة فرد أو مجموعة لشيء ما.
تحْمِل عمليّة الاستقبال بمعناها الإيجابيّ، قبولًا للآخر (بما في ذلك النصّ الأدبيّ)، بمتعة وسرور ورغبة به، حين تتناسب مع أفق التوقع، أو تدلّ، بمعناها السّلبيّ للاستقبال، على امتعاض ونفور من الآخر (النصّ)، وإغفال له حين يخرق أفق التوقع. وقد ينتج عن اللقاء بين الأنا والآخر (القارئ والنصّ مثلا)، تغَيُّرٌ يُفضي إلى تكييف الذات القارئة، كي تتقبّل وتتفهّم جماليّة النصّ الجديد، الذي يخرق المعايير السّائدة ويُخالفها، وبذلك يتغيّر أفق التوقع لوجود مسافة جماليّة (aesthetic distance) بعيدة المدى.
كلّ هذه الاستجابات الإنسانيّة الممكنة واردة أو محتملة في استقبالنا لعمل أدبيّ أو فنّيّ ما. كذلك تُبيّن "جماليّة الاستقبال" طبيعة التعامل بين طرفيْن: جمهور القرّاء والعمل الأدبيّ. والطرفان في هذا التعامل فعّالان بقدر ما، يتبادلان من تأثر وتأثير، ويتغيّران بعد فعل القراءة، وهذا أمر طبيعيّ في كلّ تفاعل متبادل بين طرفيْن. وعند استقبالنا لأيّ نصّ أدبيّ، تلعب الزمكانيّة وسياق الاستقبال دورًا مركزيًّا، على نحو ما يحدث في الواقع عند استقبالنا للآخرين.
لا نستطيع أن نعزل ذواتنا القارئة عن تاريخها وذاكرتها الجماعيّة، وعن ثقافتها وسيكولوجيّتها وزمكانيّتها، عندما تلتقي بالنصّ الأدبيّ، الذي له هو أيضًا بيئته الحضاريّة والتاريخيّة والاجتماعيّة والزمكانيّة الخاصّة.
نخلص إلى القول، إنّ هناك عواملَ كثيرةً قد لا نعيها دائمًا، تؤثر عند استقبالنا للعمل الأدبيّ، وكلّها تعمل في نشاط دائب ودائم.
الاختلاف في قراءات العمل الأدبيّ الواحد: يفسّر ياوس ظاهرة الاختلاف بين القراءات، مُعتمِدًا على مصطلَحَي "النموذج" و"أفق التوقّعات". حسب فيلسوف العلم كُون(T. S. Kuhn) ، فإنّ العلماء في فترة زمنيّة معيّنة، يعملون بحسب نموذج خاصّ من الفرضيّات والأفكار. لكن، ما أنْ يَستنفذ النموذج ذاته، وذلك حين يجد العلماء أنفسهم في مواجهة مشاكل عديدة، لا قِبَل لهم على حلّها بحسب هذا النموذج، حتى ينشأ نموذج جديد.
بشكل مشابه، حسب ياوس، فإنّ القرّاء والكتّاب في فترة معيّنة، يقرؤون ويكتبون بحسب مجموعة من الفرضيّات والمُسلّمات التي تسيطر على ممارستهم هذه. تتضمّن الفرضيّات ما له علاقة بالأدب، مثل الأسلوب والشكل والجنس الأدبيّ، وما له علاقة بسياقات الأدب، مثل البيئة والعادات الكلاميّة والأحزاب السياسيّة والاجتماعيّة. إنّ القرّاء المعاصرين لعمل أدبيّ ما، يقرؤونه بحسب أفق التوقعات المسيطر في عصرهم. وقد يكون هذا الأفق مشترَكًا للقرّاء وللمؤلّف. فإنْ كان كذلك سَهُل فهم المؤلف وتأويله. لكنّ تباعُدَ الزمن بين المؤلّف وقرّائه، قد يُصعّب عمليّة الفهم والتأويل، وذلك بسبب اختلاف أفق القرّاء الحاليّ المعاصِر عن أفق المؤلّف، البعيد زمنيًّا عنهم بمجموعة فرضيّات مجتمعه ومسلّمات عصره. وقد يحدث العكس، عندما يكتب كاتب ما بطريقة يُخالف النموذج المسيطر في فترته. عندها يجب أن تنتظر أعماله الأدبيّة جيلًا لاحقًا من القرّاء، لكي يفهموها ويُقدّروها. إذن، هناك نصوص تُساهم في تشكيل أفق توقّعات لاحق.
من هنا كانت نظرية ياوس معنيّة بتفسير التغيّر والثورة في التاريخ الأدبيّ. ولكن، كيف يمكن لقارئ اليوم أن يفهم عملًا أدبيًّا قديمًا؟ الجواب على ذلك يكون في متابعة هذا القارئ للقراءات المختلفة في الفترة التي سبقت زمنه، ليجد التفسير الذي يتناسب مع تفسيره، وليكتشف بدوره ما يُمكنه أن يُضيف إلى هذا النصّ بقراءته الخاصّة.
هنا نعود لمفهوم جادامر (Gadamer) عن "انصهار الآفاق". فمعنى النصّ غير محدود بمقاصد المؤلّف، بل هو يتمدّد ويتوسّع بشكل مستمرّ في القراءات اللاحقة للعمل. وبالتالي، يؤكّد جادامر على التمَوْضُع التاريخيّ للقارئ. فكلّنا مخلوقات تاريخيّة نجلب معنا هويّاتنا المرتبطة بزماننا في كلّ ما نقوم به. وكلّ موضوع ندرسه لا يُمكن أن نفصله عن ذاتيّتنا، ومن هنا لا يُمكن أن ننفي انحيازنا، فالحياديّة مجرّد وَهْم.
كلّ ما يُمكن أن نصل إليه عند دراستنا لتعاقب الآفاق والقراءات المختلفة لعمل أدبيّ ما، هو "انصهار" هذه الآفاق. فقراءتي تتحوّل إلى تأكيد أو إلى أداة مُنَظِّمة في خِضمٍّ من المنظورات المعقدة للآفاق. والانصهار بين الآفاق المختلفة يتمّ بشكل حتميّ، إمّا عن وعي أو دون وعي. من هنا تأتي أهميّة تأريخ الأدب من خلال دراسة متعمّقة للنصوص الأدبيّة، لأنّ للأدب قدرة في تشكيل معاييرنا وقيمنا الاجتماعيّة والأيديولوجيّة.
كيفيّة تطبيق النظريّة على القراءات المتزامنة والمتعاقبة: تمثّل كلّ قراءة نقديّة جمهورًا أو فئة من القراء في زمكانيّة ما. على الباحث الذي يدرس ظاهرة القراءات المتزامنة والمتعاقبة، أن يحدّد أوّلًا التوجّه الأساسيّ للقراءة النقديّة، بمعنى؛ ما هو السؤال الرّئيس الذي تجيب عنه.
على سبيل المثال في دراستي لثلاثيّة نجيب محفوظ، اخترتُ عدّة قراءات نقديّة، وبعد ذلك قمت بكتابة قراءتي التي تناسبت في بعض الأمور مع القراءات السابقة، واختلفت مع قراءات أخرى. فقرّاء محفوظ في الستينات من القرن الماضي، لا بُدّ أن يختلفوا في قراءتهم للثلاثيّة عن قرّاء القرن الواحد والعشرين. وممّا يُلفت النظر وجود تشابه بين قراءات الفترة الواحدة، وهذا لا نكتشفه إلّا لاحقًا في فترة متأخرة. كما لفتَ نظري أنّ القراءات الأولى لمحفوظ قد خالطها الانفعال والانبهار، وكأنّ الثلاثيّة تقدّم أفق حلّ منشود لأزمة اجتماعيّة وسياسيّة، ولم تمنع هذه القراءات نفسها عن التعبير بإعجابها بهذا العمل، كفتح أدبيّ في الرواية كجنس أدبيّ، بينما ركّزت القراءات اللاحقة على بناء الثلاثيّة، وكان تناولها لها أكثر علميّة وعقلانيّة. وقارئ اليوم لن يهتمّ بحزب الوفد ولا بالحزب الشيوعيّ، بل سيهتمّ بحزب الإخوان المسلمين، لأنّه مرتبط بعصرنا. كما أنّ ثورة 1919 لن يكون لها دلالة، إلاّ كرمز لكلّ شعب يطالب بتحرّره من كلّ ظلم أو استعمار.
قمتُ بعرض ستّ قراءات قد اخترتها بشكل مقصود، فكلّ قراءة تحاول تسليط الضوء على جانب من جوانب الثلاثيّة بشكل خاصّ، ولكنّنا مع ذلك سنجد التشابه بينها في بعض الأمور، كأن تكون شخصيّة كمال انعكاسًا لشخصيّة المؤلّف وأفكاره ووفديّته، أو أن تكون العائلة هي البطل، أو التأكيد على دوْر الزمن في تغيير الأسرة والمجتمع. أمّا قراءتي فتناولت ناراتيف الحبّ بأنواعه ودلالاته المختلفة في ثلاثيّة نجيب محفوظ، كلّ قراءة تعبّر عن موقف فئة محتمَلَة من فئات جمهور القرّاء. فنجيب سرور الذي سافر إلى الاتحاد السوفياتي ليتلقى تعليمه، يمثّل كثيرين من شبّان تلك الفترة الذين رأوا في الدولة الاشتراكيّة خلاصًا من الظلم وانتصارًا حتميًّا، بحسب الجدليّة التاريخيّة لطبقة البروليتاريا. آمنوا بمساواة المرأة بالرجل ونادوا بها، وهم مشرّبون بأفكار انجلز وماركس، مؤمنون بها كأنّها حقيقة مطلقة، دون أن يعملوا على كشف الثغرات في النظريّة.
أمّا غالي شكري المسيحيّ، فقد تُفهَم قراءته على أساس أنّها تعبّر عن لهفة الأقباط في مصر لتغيير في النظام السياسيّ، لا يُنظَر فيه للمواطنين على أساس دينهم. وَعْيُ غالي شكري بفشل حزب الوفد (الذي ضمّ الأقباط)، جعله يركّز على الحزب الشيوعيّ كأن فيه الحلّ/البديل المنشود.
أمّا نبيل راغب فهو يمثل جماعة من النقّاد العرب، الذين يدّعون استقلاليّتهم وتحرّرهم من المناهج والمصطلحات والمعطيات النظريّة، التي وضعها النقاد الغربيّون، كي يحرّر النقد العربيّ من هيمنة المقاييس الغربيّة. إلاّ أنّه، في الواقع، يستخدم نفس مصطلحات الغربيين: الوحدة العضويّة، التشكيل الدرامي، الصراع الدرامي والحبكة.
إنّه يهدف إلى دراسة العمل الفني كوحدة حيّة مستقلّة بذاتها، بعيدًا عن نظريات وضعها الغربيّون عن الرّواية، كجنس أدبيّ وعن أنماطها المختلفة، بينما هو ينهج نهجهم دون أن يذكر مصادره الأجنبيّة. فهو يميّز في أعمال نجيب محفوظ أربع مراحل شكليّة أساسيّة، يخصّص لكلّ مرحلة فصلًا. هذه المراحل هي: المرحلة التاريخيّة، المرحلة الاجتماعيّة، المرحلة النفسيّة المبتورة، والمرحلة التشكيليّة الدراميّة.
يتساءل الناقد حميد لحمداني بحقّ: كيف استطاع نبيل راغب أن يتوصّل إلى هذا التصنيف، دون أن يخضع لمقاييس جاهزة عن مفهوم الرّواية الرّومانسيّة، ومفهوم الواقعيّة ومفاهيم علم النفس ومفهوم الشّكل الدّرامي؟
قراءة ساسون سوميخ تمثل جماعة المثقفين اليهود، من أصل عربيّ (عراقيّ) الذين أتقنوا اللغة العربيّة، باعتبارها لغة الأم الأولى لهم، كما اكتسبوا ثقافة أجنبيّة غربيّة. لذلك استطاعوا تناول الأعمال الأدبيّة العربيّة بحسّ لغويّ مرهف، وعقل نَهَلَ من الثقافة الغربيّة دون أن تفقدهم اتصالهم بجذورهم الأولى التي جاؤوا منها. لذا جاءت قراءته تمتاز بنظامها العلميّ المدروس والمكثف، دون أن تفقد نشوتها الجماليّة بالعمل الأدبيّ لغويّا وبنائيّا.
قراءة سيزا قاسم القيّمة للثلاثيّة تُمثل أحسن تمثيل جماعة النقاد، الذين يتّخذون لهم تيارا نقديّا غربيّا محدّدًا، يحسنون دراسته، ثمّ يحاولون تطبيقه على عمل أدبيّ ما. دراستها تعتمد على البنيويّة، ولذلك جاءت قراءتها مرتبطة بالعمل الأدبيّ، في مكوّناته الداخليّة فقط، دون النظر إلى السّياق التاريخيّ والجغرافيّ للعمل. بسبب اختيارها للمنهج البنيوي جاءت قراءتها بعيدة جدّا عن أيّ لمحة ذاتية، وبدون إطلاق أحكام تُقيّم العمل، فاتسمت كتابتها بالموضوعيّة الجافة، التي لا تُشعر القارئ بجمالية النصّ الأدبيّ المدروس.
أمّا فيصل درّاج، الناقد الفلسطينيّ، فقد آلمني الطابع السوداويّ الكئيب الساخر اللاذع، الذي يغلّف به جوّ الثلاثيّة. هل يمكن اعتبار المعاناة المتواصلة للشعب الفلسطينيّ عاملا في رؤية العمل الأدبيّ، كتعبير عن ألم كلّ إنسان ومعاناته، في هذا الكون المتأزّم الذي يغلي بشروره ومصائبه؟ ألا يُثبت ذلك أنّ انتماءنا للوعيّ الجماعيّ الخاصّ بشعبنا، لا بُدّ أن يؤثر في نظرتنا إلى الأشياء وتفسيرنا لها؟
موديل لتطبيق نظريّة الاستقبال: لقد وضع ياوس ذائقة الجمهور في أساس قياس نجاح العمل الأدبيّ، ورواجه في زمكانيّة معيّنة. إلاّ أنّ ما كان ناقصًا في نظريّته هو كيفيّة قياس هذه الذائقة ميدانيّا.
لقد اهتمّ ياوس بالمعايير النصيّة الداخليّة، باعتبارها مؤشّرًا على معالم نجاح النصّ الأدبيّ، معتمدًا على الدراسات النقديّة التي سبقته حول نصّ يريد معالجة رواجه ونجاحه، قبل أن يقدّم قراءته هو للنصّ الأدبيّ. لكنّ نظريّة تضع في أساسها جمهور القرّاء، يجب أن تأخذ بالحسبان الهُويّات المختلفة للقرّاء، كما يجب أن تقدّم موديلًا يسمح بفحص ردود الفعل الموضوعيّة الخارجيّة على العمل الأدبيّ.
التقصير في هذا الجانب يجعل نظريّة الاستقبال ضعيفة في الممارسة التطبيقيّة، وذاتيّة الممارسة كغيرها من النظريّات الأدبيّة. في هذه الحال لن تكون قادرة على تقديم جديد في هرمنيوطيقا العمل الأدبيّ، خاصّة وأنّ بذور نظريّة الاستقبال كانت موجودة في المناخ الفلسفيّ لألمانيا قبل أن يطوّرها ياوس.
من هنا يأتي إسهامنا في تحويل نظريّة ياوس إلى منهج يصلح تطبيقه بشكل عمليّ، على عيّنات أدبيّة. يتميّز الموديل المقترح بالمرونة، لأنّه يتعامل مع العمل الأدبيّ ككائن حيّ، له خصوصيّاته التي يتفرّد بها، إلى جانب الملامح العامّة التي يشترك بها مع الأعمال الأخرى. الدراسة الحاليّة تطبيق لهذا الموديل الذي استطاع أن يُحوّل نظرية ياوس، ذات الطابع الفكريّ التجريديّ، إلى ممارسة فعّالة تساهم في تقديم قراءة جديدة للروايات المدروسة، كما ينجح في دراسة العمل الأدبيّ كمنتوج له سوقه الخاصّ من المستهلكين، الذين يُقبلون عليه أو يرفضونه أو يتجاهلونه.
معايير نصيّة داخليّة:
الشّكل: نفحص ما يلي: بناء الشخصيات، الرّاوي وأشكال التبئير، الزمكانيّة، انغلاق النصّ وانفتاحه، اللغة، خطاب العنوان وسيمياء الغلاف.
المضمون: نفحص ما يلي: الحوار، الوصف، الأفكار والمشاعر والمواضيع، الأحداث.
القراءات المتزامنة والمتعاقبة للنقاد، والقراءة الأحدث الآخذة بعين الاعتبار ناحيتي الشّكل والمضمون.
في نهاية اللقاء كانت مداخلات للزملاء والزميلات، ثمّ احتفالاً بأعياد ميلاد كلّ من د. بطرس دلة وآمال عواّاد رضوان وآمال أبو فارس، الذي صادف 16-1-2013.
للتوسّع انظر: كلارا سروجي شجراوي. نظرية الاستقبال في الرّواية العربيّة الحديثة: دراسة تطبيقيّة في ثلاثيّتيّ نجيب محفوظ وأحلام مستغانمي. باقة الغربيّة: أكاديميّة القاسمي، 2011.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق