الأحد، 2 يونيو 2013

مؤتمر الترجمة في بغداد حيث تركنا قلوبنا - لبنى ياسين‎

مؤتمر الترجمة في بغداد حيث تركنا قلوبنا - لبنى ياسين‎
لبنى ياسين
عائدون من بغداد، والحنين قد اتخذ مكاناً في قلوبنا، كل من كان في المؤتمر، سواء كان من أصول عربية، أو غريب القلب واليد واللسان، حمل شيئا من هواء بغداد في رئتيه، وترك نهر دجلة أثار مياهه الجارية على القلوب، بعد أن غسلها بدفء وطيب، عائدون وفينا من الحب ما يكفي ليتوزع على الكون، تلك المدينة السمراء، اتخذت فتنتها سبيلاً الى كل القلوب دون منازع.

ما أذكره تماماً وبشكل مخصص من تلك الرحلة كلام البرفيسور الأمريكي الذي كان معنا، والذي بدا في غاية التأثر وهو يغادر بغداد حيث قال:

" أنا فعلاً آسف لأنني أعرف تماماً أن هذا الدمار سببته بلادي".

كنا معاً وفود من مختلف بلدان العالم لحضور مؤتمر بغداد الثالث للترجمة، أتينا بقلب مفعم بالخوف، وتصورات عن أوقات سنقضيها في حالة خوف وتيقظ في مدينة خاوية لا يتجول في شوارعها إلا الخوف والدمار، تلك الصورة المغلوطة التي أوصلها الإعلام إلينا عن مدينة تتجول القنابل والمفخخات فيها بحرية، فإذا بنا أمام بغداد الحب، بشعبها الطيب الذي يقاوم الموت بالبناء والعمل، مدينة تقاتل لئلا يدسّها القاتل في الكفن، وتنشر المحبة والسلام فيما هي تنزف وجعاً، ورغم أن المدينة لم تخلُ من الحواجز الأمنية، والإجراءات الوقائية للحد من المحاولات المتكررة لزرع الموت هنا وهناك من قبل أشخاص فقد الحب طريقه إلى قلوبهم، إلا أن ذلك لم يخفِ بأي طريقة الجمال الحقيقي لمدينة لا تشيخ ولا تستسلم، وتعرف بشكل مؤكد مقدار الفتنة التي حباها الله بها.

ثلاثة أيام استغرقتها فعاليات المؤتمر الذي نظمته دار المامون للترجمة والنشر، وكلية اللغات بجامعة بغداد ، وتم افتتاح المؤتمر الذي عقد تحت شعار :"بالترجمة تتواصل الثقافات"، في تاريخ السابع من أيار الجاري 2013 ، بتلاوة مباركة من الذكر الحكيم، تم اختيارها بذكاء حيث كانت الآيات تتحدث عن اختلاف الألسنة، ثم وقفنا لسماع النشيد الوطني، الذي أدمع عيني أنا السورية التي تشتاق إلى أرضها وأهلها، ووقفنا بعدها دقيقة صمت، مرّ في بالي عندها كم دقيقة صمت..بل كم قرن من الصمت يحتاجها السوريون على الأرواح التي تقتل كل يوم، وبعدها، ألقى ممثل دولة رئيس الوزراء الأستاذ علي محسن اسماعيل الأمين العام لمجلس الوزراء كلمة قيمة افتتح بها المؤتمر، ثم ألقى الوكيل الاقدم لوزارة الثقافة الأستاذ طاهر ناصر الحمود كلمة نيابة عن معالي وزير الثقافة تحدث فيها عن أهمية الترجمة في نقل علوم اليونان وآداب الفرس وحكمة الهند والتعاطي مع تلك المعارف، بعد أن رحب بالضيوف كما يجب وأكثر.

كما ألقى مديرعام دار المأمون للترجمة والنشر د.علاء ابو الحسن اسماعيل كلمة رحب فيها بالضيوف العرب والاجانب، مشيراً الى النشاطات التي قامت بها وزارة الثقافة في مؤتمر الملكية الفكرية، ومعرض بغداد الدولي للكتاب، والتي كان آخرها مؤتمر الترجمة، ثم تلته كلمة الدكتورة سوسن السامر عميدة كلية اللغات في بغداد، فكلمة الدكتور محمد أيت لعميم الأستاذ والناقد والمترجم المغربي نيابة عن الضيوف العرب.
بعدها تمت قراءة البحوث والدراسات المقدمة من باحثين عراقيين وعرب وأجانب أتوا من مختلف البلدان ليشهدوا هذا العرس الثقافي ، وكان من الأشياء التي لفتت نظري على المستوى الشخصي، دراسات في ترجمة القرآن تمت عن طريق دكاترة أجانب يتقنون اللغة العربية دون أن يكون لهم أصول عربية، ووجود دكاترة جامعات أجانب يتحدثون اللغة العربية بطلاقة، وقد سألت البرفيسور جورج غوريغي من رومانيا والذي كان جاراً لي في الجلوس، وصديقه الشاعر الشاب الروماني غابرييل بيتسونا الذي نشر مجموعة شعرية باللغة العربية والرومانية، حول اختيارهم للغة العربية للتخصص فيها، فأجابني البرفيسور مبتسماً: "إنه كالحب لا تستطيعين معرفة سببه، وإلا لزال السبب ولم يبق شغف للغة العربية".
شهد المؤتمرحضوراً لافتاً لشخصيات سياسية وثقافية وأكاديمية من وزارتي الثقافة والتعليم العالي، والبحث العلمي، بالإضافة إلى ضيوف المؤتمر من العرب والأجانب المدعوين من أكثرمن عشرين دولة الى جانب أساتذة كلية اللغات وموظفي دار المامون.
وكانت الثقافة العراقية الأصيلة ضيف المساءات الدافئة، حيث تكلل المساء مرة بالفرقة القومية للفنون الشعبية لتقدم للضيوف صورة عن التراث العراقي، وأخرى بفرقة الاوركسترا، وثالثة بمطربين من كبار المطربين العراقيين الملتزمين هما الفنان حميد منصور، والفنان محمد السامر اللذان جعلا الحضور يتمايل مع الأنغام الشجية للأغاني العراقية.

لعله من المفيد أن نعترف بأنه في غياب خطة عربية لأعمال الترجمة، ومؤسسة تهتم بالتراجم من وإلى العربية، فإن دار المأمون بقيادة الدكتور علاء أبو الحسن تنهج نهج سالفتها في بغداد "دار الحكمة" التي أنشئت أيام العباسيين، وتحمل على عاتقها أعمال الترجمة بتخصص وتميز يشكر للمؤسسة، وما المؤتمرات إلا جزء من أعمال الدار التي تنشر بطريقة دورية مجلات ثقافية بلغات مختلفة، كما تقوم بترجمة وطباعة ونشر الكثير من الكتب، ولعلني لا أبالغ إن قلت أن البحث عن الكتب المترجمة يبدأ وينتهي في الوطن العربي عند دار المأمون كمؤسسة متكاملة تهتم بالعديد من التخصصات الثقافية والعلمية والادبية والسياسية.

ما لفت أنظار أغلب الضيوف في المؤتمر:
  • · مستوى التخطيط والتنفيذ والاهتمام بالتفاصيل في جميع فعاليات المؤتمر.
  • · تنوع الحضور والمشتركين من حيث الاختصاصات والاهتمامات مما جعل البحوث المقدمة متنوعة وشاملة تقريبا.
  • · البشاشة وحسن الضيافة والتعامل مع الوفود المشاركة.
  • · الإدارة الحكيمة للفعاليات والتي تمت بادارة دكتور علاء أبو الحسن الذي وفر بحكمته مناخاً جميلاً للعمل الجماعي، مما جعل طاقم العمل والاستقبال يتمتعون بروح أسرية رفعت بمستوى الأداء إلى درجة لم نعهدها في الأعمال الجماعية العربية، كون الشخصية العربية غالباً لا تتمتع بثقافة العمل الجماعي ولا تعمل عليها.
  • · إدارة العمل بشكل منظم ومخطط بشكل كانت فيه كل تفاصيل المؤتمر خاضعة لخطة مسبقة مكتوبة مما وفر الكثير من الوقت وساعدعلى الالتزام بالخطة المقررة.
  •  · تنوع البحوث المقدمة في طرحها وطريقة عرضها.
ومن الجدير أن نذكر أن كثافة المشاركات التي قُـرئت في المؤتمر، جعلت أغلب المشاركين يطلبون زيادة في الوقت، سواء على مستوى الوقت المخصص لهم شخصيا لقراءة بحوثهم، أو الوقت المخصص للمؤتمر ككل، لتوفير الزمن اللازم لكل بحث لمناقشته والحديث عنه، كما - ومن قبيل الطرافة- أذكر أننا في اليوم الأخير تجمدنا بسبب تخفيض حرارة المكيف، ومؤتمر على هذا المستوى لم يُعب فيه سوى آثار المكيف علينا..واحتياجنا لوقت أطول لقراءة البحوث، لهو مؤتمر ناجح وبجدارة.

لم يألُ القائمون على المؤتمر جهدا في إظهار الوجه الحقيقي للعراق، ولإنسان العراقي، فكان حسن الاستقبال والضيافة والابتسامة الدائمة والرقي في الحديث والمظهر والتعامل عنوانا على المستوى الاجتماعي للمؤتمر.

وكانت لنا زيارة متحف بغداد الذي لو غادرت دون أن أراه للازمني الحزن طويلاً، لكن القائمون على المؤتمر فعلوا ما بوسعهم لفتحه لنا لمدة ساعتين حيث أن المتحف يخضع للترميم بعد ما مر به من سرقة وتهديم إبان الحرب على العراق.

وهناك كان الوجه الحضاري الحقيقي لأقدم المدائن العمرانية على الأرض، وأقدم الأبجديات التي اخترعها الإنسان، وجها مشعاً للعراق..ولحضارة عمرها آلاف السنين.
اختتم المؤتمر بتكريم الضيوف المشاركين، بتقديم شهادات تقديرية، مرفقة بنموذج مصغر عن مسلة حمورابي، وعلى أنغام الأغاني العراقية بصوت شجي للمطربين العراقيين حميد منصور، ومحمد السامر انتهت فعاليات المؤتمر بنجاح رائع، ومن خلال الأحاديث المتبادلة بيني وبين بقية الوفود، علمت أن بغداد لم تصطد قلبي فقط، بل سرقت كل القلوب التي جاءتها خائفة واجفة، ثم أستسلمت لجمالها الأخاذ، وأن كل من زارها في هذا المؤتمر يتمنى أن يعود إليها قريباً، وأننا جميعا تمنينا لو كان لدينا الوقت الكافي لزيارة بقية معالمها الجميلة.
عدنا محملين بالمشاعر والصور..هذا ما عدا الفائدة العلمية والأدبية التي أفادنا بها المؤتمر من حيث الاطلاع على بحوث بقية الزملاء، والتعرف إلى الجهود المبذولة في الترجمة على الصعيد العربي عن طريق دار المأمون.
عدت وفي داخلي شعور جميل بأن الثقافة العربية ما زالت بخير طالما أنها بأيادٍ أمينة تقلق وتسهر وتتعب لأجل الارتقاء بها وإيصالها إلى العالم.

شكراً بغداد.
شكراً دار المأمون، والشكر موصول لكل العاملين في دار المأمون من كبيرهم إلى صغيرهم.
شكراً لأنكم خلقتم لنا بيئة عائلية، ولم نخرج من المؤتمر بالفائدة العلمية فقط، بل خرجنا من المؤتمر تاركين عائلة دافئة لنا هناك، وأصدقاء تعرفنا عليهم على ضفاف دجلة فجعلوا من قلوبنا مسكناً لهم.

ليست هناك تعليقات: