الاثنين، 25 نوفمبر 2013

قراءة في ديوان كأس الروح - الأديبة نجاة الزباير

قراءة في ديوان كأس الروح للشاعرة سعاد المدراع
بقلم الأديبة نجاة الزباير - المغرب

تقاسيم شذرية على أوتار غزلية: قراءة في ديوان : كأس الروح " للشاعرة المغربية سعاد المدراع (*)

شيء من رمال البداية

الشذرة الشعرية عبارة عن طلقات سريعة من مسدس الإبداع، فهل هي اختزال لقصيدة طويلة؟ أم هي مجرد عتبة لنص لم يتبلور بعد في ذاكرة الشاعر فاكتفى بسطور تترجم عزوفه عن الإسهاب؟

أم تراها كتابة سجينة في عوالم ضيقة، يختارها المبدع عندما يمل الاستفاضة في نشر النص على مدى لغوي شاسع؟

لن نخوض غمار التعريف بالشذرة، والتساؤلات العالقة التي تتشابك خيوطها كلما تم تناولها، بل سنقف عند شاعرة عرفت كيف ترتدي فصول الذات وهي تصغي لقلق الوجود بارتباطها بجمال الحرف، حيث كسرت دائرة القصيدة من خلال ومضات شعرية تتقرى جسد الجمال، أصغت لريح ثقافية منحتها وطنا لحلم يجلس على شرفة الشعر.


الشاعرة سعاد المدراع

=1= خطوات في شارع الشمس

سعاد المدراع؛ هذه القصيدة الإنسانية التي تنثر عطر حرفها هنا وهناك، كفها نهر شعري يتدفق بتوهج غريب يستوطن أرض الاختلاف, وأنت تقرأ شذراتها المركزة، تخالك تتنزه وسط قصيدة عملاقة تمشي بخيلاء وسط رواق لغوي متميز.


فبين الكتابة وبين هذه الشاعرة الرائعة حرف هو بمثابة حبل سُرِّي موشوم بالألوان القزحية، فيها تختزل هويتها، ومنها تتمدد إنسانيتها، إنها هوية بملامح متعددة ذات مجرى يفيض بالافتتان.فكيف تصير القصيدة القصيرة الأرجل والضامرة الجسد الشذرة فضاء للعذوبة حيث لا نلمس غير الماء والزهر رغم رنات الحزن التي تتصاعد موسيقاها عبر جدارها الشعري؟

=2= أسرار بلون الماء

تقدم لنا الشاعرة كأسا من الفتنة التي تعانق صوت الروح، فهل نحن أمام هرولة الأشياء نحو قافلة محملة بالحيرة ؟ أم أننا أمام درب غزلي يموج برعشات الحلم، حيث تغدو القصيدة الغنائية متعبة أمام هدير الذات؟ تقول:
أحرف تتسرب من ثقب القصيدة الفارغة
لم أعرف أنها تشتاق لاحتضانه
فقط أعرف أنها أحرف؛ حبلى بحبه

فكيف تكون القصيدة فارغة وحبلى في نفس الوقت؟ إنه تصوير دقيق لاستسلام الحرف للحب الذي من دونه تبقى القصيدة تحت مطرقة الصمت والتلاشي في هوة العدم.هذه القصيدة التي تلبس دثار القوة حتى تصفع بلكمة استعارية روح الشاعرة، التي تلجأ للتكرار لإقناع الآخر من خلال حكي طغى عليه اليأس.

لك في فنجان قهوتي قصيدة
كلما حاولت ارتشافها صفعتني بحروفها انتقاما لك
أنت. يا أنت

فهذا العشق الذي سقطت عن عورته أوراق المجاز، نامت الشاعرة فوق رصيفه دون أن تعي خطورة اجتياحه. تقول:

برد اجتاحَ أضلُعي
من نظرة سقطت عليه سهوا
دون تخطيط مسبق
ودون إذن مني
هكذا كانت البداية لعشق ممنوع 
لا يعرف له نهاية 

إن لغة الغزل في هذه الشذرات رفيعة، تعي من خلالها الشاعرة أحاسيسها التي تتسع للوجود، فنرى جريان الزمن بين الماضي والمضارع حيث يمزقها الحزن ويتعب قلبها الانتظار.تقول:

قد استباح الحُزن كل سعادتي
وأجهض بقسوته كل أحلامي
بقيت أُقلب صفحات أيامي
لعلي أرى فرحاً مخزونا
يستحقه قلبي وكياني

هذا الإحباط الذي ترجم علاقة معكوسة بالحب، حيث نلمس ظلمة تسكن عشقا خريفيا تتساقط أوراقه كلما مد القلق حباله.

فهل هي بكائية على جدار حلم تحيط به وشوشات غيرية رمت الشاعرة بين براثن اليأس؟ أم هي موجة كآبة أصابت الروح خارج الزمن العاطفي المرتبط بالرجل؟ تقول:

يُراقصني المساء بحثاً عنك
وأنتَ أبعدُ من تلك النجمة
اشتقت لك؛ أنت يا أنت.

فهذا النداء المتلفع بالتكرار، وهو حاضر في مكان آخر أيضا من الديوان، يؤكد على حقيقة الشوق بشكل قوي، كما يوحي بحلم متعثر في سترة الغياب. تقول:

على ذمة الغياب أنت كافر بي 
فاقتربْ واعزفنِي عَلى شفتيكَ قُبلةً مَجنونة 
ستبقى حباً يتيماً في الركن الأيسر من صدري 

فإذا كان دين العشق صعب على من يعاني إخفاقات الحاضر، فالمتأمل في هذه الشذرات يرى الحب يتيما أمام دورة الحياة المستمرة، فكلما أوغلت الشاعرة في قراءة كف قلب الحبيب، تتمنى أن تبقى فيه سمفونية حب لا ينتهي شذوها.

فهل هو خيال الشاعرة من يجعل من الهوى تميمة معلقة على صدر الوفاء؟ أم هو وعي بواقع بقدر ما تحلم فيه بشتاء يروي عطشها في صحراء العشق، نراها تنحت تمثالا لحب لا يعرف غير الخيبات.

=3= صدفات من بحر العشق

الحب ابتسامة تبعث النور في غرفة الشاعرة النفسية، فتومض الحروف وترقص فوق خط اعتراف خطير، تقول:
لَوْلاك َ يَا سَيّدي 
مَا كُنت لِأخط حَرفا 
أُعيذك بكلمات الله التامات 
من كل أنثى تسكنك سواي. 

هكذا ترتبط الكتابة عند الشاعرة بالمُلهِم = الحبيب، فهنا تتجلى صورة الانصهار المضمخة بعطر أنثوي يلغي الزمان والمكان، ويحتفي بالوصال في أقدس تجلياته، عندما ينفتح التخييل على نوافذ تجس نبضها لغة تترك نقاطا على مرافىء الكلام.

فبدونه، أي الرجل، لم تكن لتبحر في يم الحبر. فيا لهذا النور الذي به تبصر الجمال الإبداعي!

لكن بين تجاور علاقة الملهم بالشاعرة تظهر أقانيم أخرى تشد المشاهد نحو وجع يعوي بين هذه الشذرات، تقول في انكسار: 

أنــــا المنكسرة منه 
أنا الوداع المتيم بالبقاء معه 
و أنا الرحم الذي لا ينجب سوى الوجع 
أنا حبيبة لرجل أصم؛ كفيف؛ وأعرج 

هكذا تتنقل شاعرتنا فراشة بين دهشة العتاب وقسوة العناد، ويمر بين يدينا حفيف همسها وهي تحت دوحة هوًى، يجعل اللقاء مجرد رقصة ماكرة لحلم مرتبك يبعثر النفس لوعة واشتياقا.

أربكني مـروركَ 
فشـعـرتُ بكَ تــتسللُ ذاكرتي 
وأنا في كامـلِ اشتياقي 
فتركتكَ تـــسـرقني 
مــــن نـفـسي. مـــن وقتي 
من قـصائد شِـعري الــمُعــلّــقـــة على بابـك 
فـأنـا مُشتاقـــةٌ إليـكَ 

إن الشاعرة سعاد المدراع بَحَّارة تُجيد اقتناص المعاني، وامتلاك مفاتيح الخطاب، فنراها تتنفس من عتمات العشق ألما تركتنا في قريته نعد أصابع الأحلام، فهنا نداء ولهفة ترافق الأماني ببسمة الموناليزا، وهناك طقوس تملأنا دهشة، حين يمتزج المجاز ببنية لغوية سلسة تدور دورتها في جسد الحب، تقول:

أحبك جدا وحينما يبلغ الشوق الوجع 
أتناول حبوب الرسائل المختزنة في ذاكرتي 
وأضعها على قلبي 
وأقرأها من جديد. أحبك جدا. 

هذا الحبيب الذي يتحول لوطن يحمل حقائبه في خطوط شعرية تشتعل بالتساؤلات، تقول:

اقتطعني مني إليك 
يا أنت 
لأجدني أقطفني و أُهديني إليك 
وأجد نفسي تحمل حقائبها وتحل إليك 
أخبرني 
هل أنت الوطن؟ 

=4= الركض وراء فتنة القصيدة

لقد أوغلت المتميزة سعاد المدراع في مجرة هذه الشذرات، وأشعلت شموع ترحالها وسط زواياها، فجاءت عميقة الدلالات، خلقت علاقة بين الأنا الشاعرة ونثرية اللغة، كعملية لخلق فني يحتفي بالتخييل وتداخل الأبعاد في كونها الشعري، حيث تحركت الذات الشاعرة بين الحلم والنزيف في أصقاع الغياب، وأشلاء الشوق المتبرجة بماء المعنى، والرمز المنبعث في نبض التأويل الذي غالبا ما يصب في دائرة القلب.

من هنا ينطلق وجود الشاعرة إذن، لتكبر خيمتها الكونية التي احتفت بالحرف كصورة تتهادى في رونق استعاري خلقت لها صوتا خاصا ومتفردا.
إنها غواية اللغة التي أفردت جناحيها في فوق أرض بلاغية غنية بأسمى الدلالات. فكلما ضاقت لغة القلب اتسعت رؤيتها الشعرية ومنحتنا قناديل من سماء الكلام.

(*) صدر ديوان "كأس الروح" للشاعرة سعاد المدراع عن دار الوطن، المغرب (2013).




ليست هناك تعليقات: