الأربعاء، 4 فبراير 2015

" آه يا ضنا !! "... قصة قصيرة للشاعرة والأديبة السورية ثراء الرومي

" آه يا ضنا !! "... قصة قصيرة

الأديبة ثراء الرومي

على مرمى كتفٍ من وجهها المسافر بعيداً عن عينيهِ يمدُّ كفَّهُ محاولاً جعلها تستدير نحوه... تجتاحها قشعريرة تذكّرُها بحمّى المشاعر التي اجتاحتها حين لمس يدها للمرّة الأولى، ولكن ما أبعد القشعريرتَين!

تنظر إلى الحقائب المتّكئة على الباب، ولا ترى سوى ضباباً تزدحم فيه الصّور في ذهنها المشوّش. هي ذات الحقائب التي دخلَتْ بها باب القفص الذّهبيّ بكلّ فرح ستخرج بها بكلّ انكسار وقد أصبح قفصاً من التّنك الصّدئ. تكادُ لا تراه ولا تسمعه لولا يدٍ ثلجيّةٍ تصرّ على تحويل وجهها وبصرها إليه دون جدوى. " ياه... ما أتفه التّضحية في غير مكانها": تفكر بأسى بالغ. تنظر إلى يدها المرتجفة المتّكئة على الأريكة، تمدُّ أصابعها، وبيدها الأخرى تحرّك الخاتم الذي يطوّق بُنصرَها بعصبيّة بالغة. " أنت الأجمل في نظري كيفما كنتِ.... ما ذنبكِ إن أكسبكِ الكورتيزون بعض الوزن الزّائد؟!.. الله كريم تتعافين وتستعيدين رشاقتك المعهودة"... تتردّد جملته على مسامعها كنشاز مزعج جدّاً... تهزّ برأسها بعنف وكأنّها تريد للكلمات العالقة على ضفاف مسامعها أن تتساقط فلا تسمعها من جديد. كيف لا وقد أصبحَتْ نغمتُه الجديدةُ مؤخّراً: "ألا تنظرين إلى نفسك في المرآة؟!... لا عجب إن اضطررتِ يوماً إلى تفصيل كامل ملابسك، لأنّ السّوق لن ينتج ما يناسب مقاسك بعد مدّة"
تردّد معزوفتيه بصوتٍ عالٍ وقد تردّدت على مسامعها عبارة رقيقة من ردهة الماضي: "كم أعشق اهتمامك بتفاصيلي كلّها"... ومن ردهة الحاضر تحاصرها عفاريت عبارات أخرى: "سئمتُ حصارك الدّائم... سئمت اهتمامك المبالغ به... دعيني أتنفّس!!"
تنشج بصمتٍ وهي تكاد تختنق، ثمّ تطلق نحيباً مريراً وهي تضرب بقبضتها على الطّاولة الزجاجيّة أمامها ضربات متواصلة، لتنسكب قهوتها الباردة على الصحن الملتصق بها ويكاد يسقط أرضاً.
"حبيبتي لا تزعجي نفسك وتستيقظي باكراً لأجل كوب من القهوة.سيدركني الوقت قبل أن أنهي ثاني رشفة... ولن نهنأ بشربها معاً. اذهبي وأكملي نومك ، وأنا أتدبّر أموري."
كم كان هذا الكلام مصدر سعادة دائمة لها، ومثار فخرها بين صديقاتها... فهو يقدّر تعبها مع الأطفال ومسؤوليّاتها الجسيمة في كلّ مرحلة من حياتهما معاً.
" هل فكرتِ يوماً يا (مدام) أن تستيقظي مع زوجك لتعدّي له القهوة أم أنّني في الدّرجة الدّنيا من سلّم اهتماماتك؟!!"
كلّ محاولاتها لتذكيره بأنّها ما انفكّت تحاول ذلك ولكنّه كان يمنعها لم تُجدِ نفعاً، فكما في كلّ جدال بينهما يتذكّر ما يشاء ويتناسى ما يحلو له أن ينساه... لتيقى هي المخطئة دوماً. كلّ ما كان بالأمس علامة وفاق كبير بينهما بات اليوم من أسباب عتبه البالغ، وكأنّه أمضى العمر يرمي هذه المواقف في حصّالة زمنيّة فتحها فجأة، فكانت كفيلة بأن تشتري لهما عمراً من النّكد. كم هو قادر على فقدان ذاكرته متى شاء، ولكنّه هذه المرّة قد استعاد ذاكرة مراهَقةٍ ربما لم يعش طقوسها في حينها: " لو اختصرتَ على نفسك كلّ تلك الأعذار والمشاكل المختلقة وقلت لي: لم أعد أحبّك"
شريط طويل يمرّ في لحظات، ومعه ما صار وما كان. هي تدور في فلك ذكرياتها بمرارة وهو يثرثر ويثرثر دون أن تسمع حرفاً ممّا يقول: "أطلقي عليها ما شئت من تسميات.. قولي أنّها غلطة... نزوة عابرة... قولي دناءة نفس إن شئتِ.. ولكن بالنّهاية سامحيني".
بالكاد ترشح إلى مسامعها كلمات قليلة من اعتذاراته بين محطّة ذكريات وأخرى... فتهزّ برأسها بقوّة من جديد.
تفكّر بولدها وابنتها اللذَينِ كان الأجدر بأبيهم أن يترك لهم خصوصيّة المراهقة التي يمرّون بها الآن. تستعرض مُرّ الآتي الذي ينتظرهما في بعدها عنهما وقد قرّرَتْ أن تذيقه مرارة كأس المسؤولية الّذي تفرّدَتْ بتجرّعه عمراً. لن يثنيها عن موقفها شيء.. ما الفائدة إن اصطحبت ولدَيها معها إلى بيت أهلها... هو أبوهما... ليتكفّل بكلّ كبيرة وصغيرة تخصّهما... علّه يستعيد تقديره لتعبها في غيابه.. ولكن ما الفائدة إن استعاد كلّ مواقفه السّابقة؟.. فزجاج الرّوح قد انكسر دون عودة، وكسر في طريقه زجاج ثقتها الذي لن يستردّه بعد الآن مهما صلح حاله:
"سأبدأ حياتي من جديد من حيث انتهت معك ولأجلك... سأنسى أنّني عرفتك يوماً... سأطأ قلبي بقدميّ وأترك لك ولدَيك.. ألستَ مصدر كلّ نجاح لهما... وأنا مصدر كلّ فشل يمرّان به؟!... فلتعبر بهما إلى بوّابات النجاح ما دمت أمّاً وزوجة فاشلة إلى هذا الحدّ"
يثرثر ويثرثر من جديد، ولكنّها لا تسمع سوى صرير الباب الذي ينتظرها وفرقعات حممها التي ترمي بها ذات اليمين وذات الشّمال، وزجاج الطّاولة يكاد ينكسر من عصبيّتها. "ولكن مهلاً ": تقول لنفسها... "ماذا لو ضاع ولديّ... كيف سيهنأ لي عيش وأنا بعيدة عنهما... وهل الجحيم الذي ينتظرني يمكن لي أن أسمّيه بداية؟!"
شريط آخر يمرّ في ذهنها، ولكنّه مستقبليّ هذه المرّة، فزوجها الذي يعشق طبخها ويتغنّى به لن يتدرّب على فنون الطّهو لأجل أولاده وهو لم يعرف يوماً كيف يقلي بيضة... وعصبيّته البالغة التي لطالما امتصّتها بذكائها العاطفيّ لن تسمح لهم بأن يسرّوا له بكلّ ما يستودعونه قلبها وروحها هي. أمام هذا الشّريط يتوقّف إرسال الماضي وتحلّ محلّه أشباح كثيرة: حيرة ولديها... تشتّت ابنتها تحديداً... زوجة الأب المحتملة... وما بين أناها المتصدّعة التي يئنّ فيها الكبرياء وأنين مستقبل ولديها يشتعل ألف سؤال.. وألف "ماذا لو؟؟؟"... وفجأة تندفع نحو الباب الذي تركته موارباً مسندةً عليه حقائبها التي تنتظر منها تأشيرة الخروج. يسرع إليها متوسّلاً... يمسك بيدها التي تمتدّ إلى الحقائب: "أرجوك لا تتسرّعي بقرارك...أعطني فرصة أخرى... فكّري جيداً... سامحي خساستي وقد ضربت عرض الحائط بكل تضحياتك... افعلي ما شئت.. أسمعيني ما شئت من كلام قاسٍ أستحقّه، ولكن ابقي أميرة هذا المنزل الذي بنيناه معاً يداً بيد"
تنظر إليه باشمئزاز، وتنفض يده عنها كالملدوغة... تركل الحقائب بكلّ القهر الذي يعتصر روحها لترتمي على الأرض وينغلق الباب بشدّة وقد دوى صوت اصطفاقه. خطوات قليلة وتفتح باب غرفة النّوم لتعود ومعها وسادة ولحاف ترميهما على الكنبة وترتمي هي الأخرى. ودون أن تنظر إليه تشير بسبابتها إلى صورة ولديها الموضوعة في إطار مزخرف في الزّاوية اليسرى... تحترق آخر دمعة في عينيها... وبقايا كبريائها المهشّم تتهدّج مع صوتها المخنوق البعيد: "لأجلهما فقط".

 الشاعرة والأديبة السورية ثراء الرومي

ليست هناك تعليقات: