لن نكون إلا كما .. أردنا
![]() |
| د. محمد طروس |
تتحرك الآلة الإعلامية على عجل. تنفتح صفحات الجرائد للحوارات والتحاليل. تمد البرامج الإذاعية ميكروفوناتها. تفتح القنوات التلفزية بلاطوهاتها، تبسط موائدها الحوارية. يتنافس المسؤولون السياسيون والمحللون الأكاديميون، ومحترفو الحوارات. تتناسل التحاليل والتعليقات والأحكام والانطباعات. ماذا حدث؟ أي ريح خلقت هذه الدينامية؟ من أين انبعث هذا الصخب الإعلامي؟. لنُعد الشريط.
يتسرب خبر مشروع قرار أمريكي يرمي إلى توسيع مهمة المينورسو في أقاليمنا الصحراوية. يستجيب الديوان الملكي لخطورة الموقف. يُستدعى زعماء الأحزاب السياسية للتشاور. يتخذ موقف موحد توافقي من المستجدات المقلقة. يصدر بيان يرفض المبادرة، يدين المبادرات المنحازة والأحادية. يخرج زعماء الأحزاب السياسية، معارضين و حاكمين، عن صمتهم ككل مرة لترديد عبارات البيان، وتثمين الموقف. تنطلق الآلة الدبلوماسية لتطويق القرار وتعبئة الأصدقاء. يجتمع البرلمان بغرفتيه للتنديد والترديد. توافق جماعي. تشبث متين بالاختيارات، بالدفاع عن الوحدة الترابية وحماية استقرار المملكة.
إلى حد الآن كل شيء عاد ومألوف. لا شيء تغير. الاختيار واضح. المواقف ثابتة. الإجماع حاصل. الشعب مؤمن بقضيته العادلة، مستعد لبذل المزيد. المغرب في صحرائه. الصحراء في مغربها. مسيرة البناء متواصلة بخطى آمنة مطمئنة. لا شيء يدعو إلى القلق أو الانزعاج أو الإزعاج. لا شيء يدعو إلى العجلة أو الارتباك. لكن. ما الذي أربك القنوات التلفزية الثلاث؟ ما الشيء الطارئ الخطير الذي جعل هذه الكائنات العجيبة تتخلى عن رتابتها، تفيق من شرودها الأبدي. توقف برامجها ومسابقاتها ونشراتها الإخبارية، لتتنافس في تنظيم لقاءات استعجالية مرتجلة. تسارع إلى خلق حوارات مفتعلة مكرورة، بين أشخاص يتشابهون. يقولون نفس الكلام. ينددون، يشجبون، يستنكرون. يرددون أسطوانات بالية. يلومون أمريكا الحليف الاستراتيجي على خذلانها وجحودها، على تنكرها لمن اعترف بكيانها، يوم كانت في حاجة إلى الاعتراف. يراهنون على إخلاص فرنسا ووفائها التاريخي. يتحدون الخصوم ومخططاتهم العدوانية. يهذون، يرتجلون بدون روية أو تحليل أو حقائق ملموسة. يقولون ويعيدون في تناغم وانسجام، وفي روح توافقية عالية. يسود الوئام، تزول الخلافات، تتفق التحاليل، يسمع صوت واحد ووحيد. تمر الدقائق رتيبة مملة، يستمر المنشطون في استظهار أسئلتهم، تتوالى الأجوبة السخيفة. تأتي الجلسات المونولوجية إلى نهايتها. تنفض القنوات عن كاهلها هذا الواجب الثقيل، تعود إلى سابق عهدها، إلى ممارساتها اليومية الأزلية. هكذا خمدت العاصفة. قالت القنوات كلمتها، رقصت في دائرتها المرسومة، عزفت لحنها في التوزيع المسكوك، ثم انسحبت.
لكن. هل يتعلق الأمر فقط بطقوس موسمية، باستجابات ظرفية، بفبركة لقاءات وحوارات، باقتطاع حيز زمني استثنائي من شبكة البرامج للتطرق إلى حدث عابر، محدود في الزمان والمكان والتأثير؟ ..قطعا لا.. ما حدث ليس حدثا عابرا. ليست هذه هي الهجمة الاولى أو الاستهداف الأخير. إنها معركة طويلة وكفاح مرير. معركة الكفاح ضد الاستعمار ومخلفاته. معركة استكمال الوحدة ولم شمل أبناء الوطن الواحد. إنها تضحيات كبيرة بالأرواح والأموال والطاقات وفرص التنمية والإقلاع. إنها استهداف للذات المغربية بجميع شرائحها وتعددها العرقي واللغوي والثقافي، وامتداداتها التاريخية والجغرافية. إنها ليست لهوا أو ترفا أو حدثا موسميا عابرا. أو كلاما موروثا نقوله وننصرف إلى لهونا وعبثنا.
إنه قصف إعلامي مدمر يطال هويتنا، يشوه صورتنا، يشيطننا، يلبسنا صورة الغازين والمحتلين، صورة الهمجي المتوحش الكافر بحقوق الإنسان. يسوقها إلى عالم منبهر بالأكاذيب والشعارات الرنانة، أمام صمتنا المطبق ولا مبالاتنا الغريبة. يتعرض مواطنونا الصحراويون داخل الوطن أو المحتجزون في المخيمات الجزائرية لغسيل دماغ ممنهج، يمحو ارتباطهم العاطفي بوطنهم. يزرع في نفوسهم الحقد والكراهية ونزعة الانفصال، يمنيهم بأوهام الجنة الموعودة. إنها مسؤولية تاريخية ملقاة على عاتق إعلامنا. دوره في المعركة أن يكسر الحواجز النفسية. أن يبدد الأوهام ويفضح ألاعيب الخصوم. نحن أصحاب قضية عادلة، أصحاب حضارة ورسالة، ويجب أن يعرف العالم، كل العالم هذه الحقيقة. علينا أن نجند طاقاتنا الإعلامية، أن نحرر قدراتنا الإبداعية، ونقوي مهاراتنا، ونفك عقدة لساننا, أن نعيد بناء حقيقتنا بمهنية وكفاءة عالية واقتدار فني كبير. المعركة معركة ثقافية، معركة فكرية وتكنولوجية، معركة إعلامية .. معركة الكفاءات العلمية والخبرات الفنية.. لن نكسبها بالارتجال والعفوية واللامبالاة.. لن نكسبها إلا بتسخير طاقتنا الذاتية.. بالخبرة والمعرفة والذكاء والقدرة على المناورة، وسرعة الاستجابة واستباق الأحداث.. لن نكون إلا كما أردنا.. ولن يستطيع الآخر – أيا كان – أن يمحو صورة حفرناها بدمائنا وقلوبنا وعقولنا.. وبقدر عال من الكفاءة و.. الاحترافية.
د. محمد طروس

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق