الأحد، 12 يناير 2014

الكوميديا السياسية - أحمد نورالدين

الكوميديا السياسية 
أحمد نورالدين

سنتان بعد الربيع الديمقراطي، الذي قيل لنا أن المغرب يشكل فيه استثناء كانتا كافيتين لتتطاير الأوراق السياسية، وتتبعثر الصور الذهنية، وتتكشف شخوص الكوميديا السياسية التي ظنناها لردح من الزمن شخصيات حقيقية. وقد يعزى هذا الظن إلى طول فصول لمسرحية الممتدة في الزمن السياسي، والاحتفاظ بنفس الممثلين خاصة "الأبطال" منهم، مما جعلنا نعتقد خاطئين أن هؤلاء جزء من الواقع وليس الخيال بمعناه السينمائي والسميائي. وهل هناك فرق بين الواقع والخيال أو بين المحسوس والمتخيل،"فالكل متخيل.." كما يقول ابن عربي "وأنه ما ثم شيء رأساً ولا اصلاً".

كنت في مخيلتي البسيطة أرى صور المعارضة في صراع مع صور القمع والظلم، وفي نضال من أجل إصلاح نظام أركييكي حتى يتماشى مع عصر الحداثة وينسجم مع صور الديمقراطية وحقوق الإنسان. حيث تشكل المساواة في الحقوق والواجبات، والحرية في الاختيارات، والتوزيع العادل للثروات، وتكافؤ الفرص في تحمل المسؤوليات، نمطاً للحياة وأسلوباً للحكم.

تصوري المعقول لدور المعارضة تمثل في البطل الخيِّر الذي يسعى خلال فصول المسرحية للدفاع عن حقوق المظلومين وإسماع صوت المقهورين ورد الاعتبار للمهمشين. وفي مقابله بالضرورة دور الشرّير الذي يستفرد بالمال ويستقوي بالسلطة على الضعفاء ويعبث بكرامتهم وشرفهم.. لا أدري كيف استقر في ذهني أن البطل لا يتراجع بل يواصل معاركه إلى نهاية الخيال أو الفيلم. فإن كان المخرج متفائلاً، وهو الأعم الأغلب، فإن الخير ينتصر على الشر.. وتنتهي التمثيلية ويخرج الجمهور من مسرح الخيال منشرح الصدر، مرتاح البال للنهاية السعيدة. أمّا إن كان المخرج متشائماً فإن البطل يستشهد في النهاية ليس لقوة الشرير، وإنما بسبب الخيانة والدسائس والمؤامرات التي تدبر بالليل والنهار. وحتى في هذه الحال، يخرج الناس من المسرح متحمسين لصورة البطل الذي سقط شهيداً في ساحة الشرف، فيرفعه المخيال الشعبي إلى مقام الأسطورة التي يرويها كل لسان وتستعصي على النسيان.

ولكن سنتين من بعد الربيع، تبين أن هذا التمثل لفصول المسرحية وتجلياتها السياسية لا يعدو كونه تفسيراً ظاهرياً تجاوزته الأحداث، وعذراً لابن حزم ولمذهبه الظاهري. فالزمان السياسي قد تشعبت به السبل، ولم يعد ذاك الزمان الأرسطي في مجتمع أثينا غير المركب.. والذي كانت تتسع فيه "الأغورا" لكل أطياف الشعب كي يتلاقوا ويناقشوا ويختلفوا ويتحاججوا ثم يصوتوا ويتفقوا على الممكن وليس الأمثل !

لقد "عادت الايدولوجيا مهنة البوليس في روما.." كما يقول درويش، وتعددت المهن المسرحية، وتشتت طيف الالوان السبعة إلى آلاف التلوينات الرقمية المتشابهة حتى لا نكاد نفرق بينها. في هذا البحر الخضم من الصور المتدفقة والخيالات المتحركة، حاولت استدعاء الفيلسوف الصوفي ابن عربي للنظر إلى واقعنا بمنظار كتابه "الفصوص والنصوص" ونظريته حول "العالم المتخيل" الذي يفسر إشكالية ثنائية عالم المُلك وعالم الملكوت. في هذا العالم المتخيل تتعايش كل المتناقضات وتجتمع كل الثنائيات. ويصبح فيه تعدد الأسماء دالاً على الذات الواحدة.. وتصبح هذه الذات هي الأبيض ذاته وهي الأسود ذاته دون أي تناقض.

وإذا عدنا إلى المسرح السياسي وأسقطنا عليه هذه الصور، نرى المعارضة ذاتها هي السلطة ذاتها، والذي كان بالأمس يعلن " موت المخزن " هو ذاته الذي يهتف بحياة المخزن. ويصير اليسار ذاته أو على الأقل جزء منه هو اليمين ذاته، ويتحول من كانوا قاعديين بالأمس إلى ذات الأعيان اليوم في كيان تمتزج فيه الأصالة الموروثة والمعاصرة المفقودة. وعلى نفس النهج لا يرى راءٍ أي حرج في الدعوة إلى الحداثة الدينية والاستماتة في الدفاع عن التقليدانية السياسية، ويرفع فريق شعارات إبعاد الدين عن السياسة في الوقت الذي يدعو فيه إلى تدخل السياسة في الشأن الديني وتغيير أحكام الإرث المثبتة بنصوص محكمة.

في هذه الكوميديا السياسية نتساءل أين هي "العقدة" التي عليها مبنى ومآل المسرحية؟ هل مازالت هي كرامة الشعب؟ أم أنه تم استبدالها بعقدة التحكم والرغبة في الاستوزار وإن خالف المنهجية الديمقراطية؟ أما زالت الديمقراطية هي البديل والتضحية هي السبيل؟ أم أن المبادئ هي الأخرى بدلت جلدها؟ أين نحن من محاربة الفساد والاستبداد؟ أم أن الاستقرار أرجح في ميزان جلب المصالح ودفع المفاسد؟ كل الخوف أن تنتهي المسرحية وتسدل الستارة على الإصلاحات، ويقال لنا أنها تأجلت إلى زمن آخر لا ريب آت.

وفي النهاية نعود إلى ابن عربي ونقول وحدها "الحضرة الوجودية" تبقى ممسكة بالقوة في الجمع بين كل المتناقضات وأولها الإطلاق والتقييد، والحداثة والتقليد، والمعارضة والسلطة، والتجارة والوزارة.. وعزاء الجمهور على مدرجات المسرح، أن هذه الحضرة الوجودية إنما هي حضرة الخيال، والكل في البداية والنهاية خيال..

بقلم أحمد نورالدين 

 10/01/2014

ليست هناك تعليقات: