السبت، 12 مارس 2016

حليمة بين الزوج المريض والابن الشهيد - د. رياض عبدالكريم عواد

حليمة بين الزوج المريض والابن الشهيد
 د. رياض عبدالكريم عواد

حليمة ابنة السادسة والسبعين هي البنت الكبرى لجميلة وعبدالقادر عواد ابو أحمد

رحلت حليمة بعد مرض لم يمهلها طويلا

رحلت واحدة من عجائزنا الركع اللواتي لولاهن لما مُطرنا


وقف الشيخ على قبرها يحض الشباب على التحزم بمن بقي من كبارنا

لم يصيبنا ما اصابنا الا بعد ان ضعف احترامنا للكبير وعطفنا على الصغير، اضاف الشيخ الكرتاوي جمال المغاري، وهو يلقي موعظته في وداع حليمة العبد عواد ام خالد،

حليمة من قرية بيت طيما، من قرى جنوب فلسطين، حيث هُجرت منها مع عائلتها وهي طفلة صغيرة

رحلت ام خالد بعد صلاة فجر يوم الجمعة ليكون منجيا لها من عذاب القبر، كما قال صلى الله عليه وسلم

رحلت دون ان ترحل صورتها وهي في منتصف العمر بالثوب الفلاحي "التوبيت" الغامق وشاشتها البيضاء الناصعة وملامح وجهها التي لايخطئ من ينظر اليها ليرى علامات التعب والاسى التي حفرت اخاديدها على وجهها المستدير وقامتها القصيرة، هذه الصورة المحفورة في ذاكرتي لا يمكن انساها لهذه المرأة قليلة الحكي قوية الشكيمة والعزيمة والاصرار

فارقتنا حليمة بعد ان فارقنا ابنها البكر خالد منذ سنوات قليلة، الولد يموت قبل امه، ألم جديد يضاف الى ألم مرض الزوج الطويل وفقده المباغة، بالاضافة الى فقد الاخ والاخت

مات خالد بعد صراع طويل مع الحياة والمرض

ترك خالد غزة شابا يافعا هاربا من احتلالها والتحق في صفوف الثورة في لبنان، مخلفا غصة في قلب امه الذي اصابته العلل والامراض من الخوف على الابن البكر ومن طول انتظار عودته سالما غانما

قاتل مع المقاتلين ودافع عن صمود بيروت الاسطوري وخرج مع المغادرين عبر البحر بعيدا الى السودان

رجع خالد الى الوطن مع السلطة العائدة بعد ان شاب وانحسر شعر رأسه لتحتل صلعته اكثر من نصف الرأس

لم يعاني هذا الرأس من الصلع فقط بل عانى ايضا من زيادة افراز السائل المخي الذي ضغط على المخ وجعله يضمر ليفقد صاحبه الوعي ويموت على فراشه بعد ان نجى مرات عديدة من الموت المحقق في مواجهة عدو شعبه

تزوجت حليمة وهي صغيرة السن، في الثالثة عشرة من عمرها، كانت الحنى تخضب يديها الصغيرتين عندما احتلت القوات الاسرائيلية قطاع غزة مشاركة بريطانيا وفرنسا عدوانها الثلاثي ضد مصر عبدالناصر ومشروعه الوطني والقومي

تزوجت حليمة من محمد زيادة وهو في الثالثة والثلاثين من عمره

تزوجت حليمه محمد زيادة بعد ان تركته زوجته الاولى في عام ١٩٤٦ راجعة الى اهلها في مصر بناء على رسالة كاذبة من مجهول يبلغها بان امها مريضة

تزوج محمد زيادة واحدة من الفلاحات المصريين الذين كانوا يأتون للعمل في الفلاحة في اراضي فلسطين الخصبة، اخص عليك يا زمن ، خليت الفلسطيني يبحث عن العمل في اصقاع الدنيا الاربعة

اصر والده على تزويجه من هذه المرأة الفلاحة لانه وحيده ولضيق اليد ولضعف الحال

رجعت هذه السيده الى اهلها في فاقوس من منطقة السويس حاملة جنين محمد زياده في بطنها، ماتت الام وضاع الوليد!!! واحدة من تراجيديا الشعب الفلسطيني

تربى هذا الوليد الذي اسموه محمد على اسم والده في كنف خاله، خاله الذي اخفى حقيقة هذا الطفل واخفى عنه الرسائل والفلوس التي كانوا يرسلونها اهله الى ابنهم الغريب

حاولت العائلة مرات عديدة ان تعثر على طفلها الذي ولد وحيدا وضاع بعيدا، ولكنها لم تفلح في ذلك

تربى هذا الطفل دون ان يعرف له أب او أم، عانى من الغربة ومن الضياع والوحدة ومن النظرات المريبة له، كطفل غير معروف الاصل والفصل، من الجيران والمعارف،

هرب ممن كانوا ينادونه "الفلسطيني ابن الحرام" هرب بعيدا الى مصر ليغرق بين زحمة البشر وليختفي عن عيون كل الناس

كبر الطفل واصبح شابا ودخل الجيش المصري وتزوج بصعوبة من سيدة مصرية قاطعتها امها لمدة سنتين لانها تزوجت من هذا الانسان غير المعروف اصله او فصله!!!

كون عائلة مقطوعة الجذور الى ان شاء القدر ، بعد ان اصبح جدا في الخامسة والخمسين من عمره وفي عام ٢٠٠٥، وبعد ان دب المشيب في راسه، ان يعود ويتعرف عليه اهله وعائلته،

تعرف عليه اهله بطريقة اقرب الى قصص الافلام البوليسية، فجمع الابناء والجيران واصدقاء الجيش ليعرفهم على اهله وعائلته ودبت فيه الروح من جديد وعادت الحياة تسري في مفاصله وفي بيته وبين ذريته بعد ان عاشوا جميعا وطويلا بلا روح او جذور

توفى الزوج محمد زيادة ابو خالد الذي عانى طويلا من الازمة الصدرية، توفى في عام ١٩٩١ تاركا لزوجته حليمة عائلة كبيرة يجب عليها ان تتدبر شؤون رعايتها

الربو الشُعبي، هذا المرض اللعين الذي اجبره ان يترك عائلته في مخيم ديرالبلح الذي يقع على شاطئ البحر والذي ترتفع فيه معدلات الرطوبة لتصل لمستوى تخنق فيه محمد زياده وامثاله من المرضى الذين يعانون من الربو

كان ابو خالد يترك عائلته طيلة فصل الصيف هربا من جو ديرالبلح المشبع بالرطوبة الخانقة، يهرب ليعمل في مزارع اريحا وبياراتها، حيث الجو الجاف، متحملا درجات الحرارة المرتفعه، الجو الجاف مناسب لمرضى الربو

هرب محمد زيادة من رطوبة دير البلح الخانقة الى شمس اريحا الحارقة، والتي تسببت في اصابته بسرطان الجلد في وجهه الضعيف وجسده النحيل

هكذا قضي ابو خالد حياته مشردا بين غزة واريحا، من مرض الربو الى سرطان الجلد، مات محمد زيادة تاركا مسؤولية تربية الاسرة لحليمة التي كانت هي الام والاب في هذا الغياب الطويل والمتكرر للأب الكادح والمريض

كان بيتها ملاصقا لبيت والدها في مخيم ديرالبلح، تخرج من بيتها بثوبها الفلاحي وشاشتها البيضاء لتصل امها جميلة او لترى اختها الاصغر آمنة التى فارقتنا قبلها بسنوات قليلة

كان والدها الحاج عبد ابو احمد خير معينا لها وراعيا لابنائها في غياب زوجها المتكرر بعيدا هناك في اريحا

انهك التعب ومرض الزوح وفراق الابن البكر ومن ثم موته، انهك جسد حليمة كما انهكها تحمل مسؤولية هذه العائلة الكبيرة، وترك علاماته واثاره على وجهها الصغير

ماتت حليمة بعد ان هدها فراق الزوج وآلمها فراق الابن الشاب تاركا لها الاحفاد

ماتت بعد ان تركت لنا ثلة من الابناء والاحفاد الصالحين والمنغرسين في وطنهم انتظارا ليوم العودة البعيد!!!

ودعناها في موكب جنائزي مهيب يليق بمن قضت جل عمرها في بناء ورعاية اسرة تعلم افرادها بجدارة احترام الكبير والعطف على الصغير

لروحها التحية والسلام ولنا الصبر والسلوان

ليست هناك تعليقات: