الاثنين، 29 أكتوبر 2018

التشكيل البصري في شعر هيام قبلان - ديوان "لا أرى غير ظلّي" أنموذجًا - د.جهينة عمر الخطيب

التشكيل البصري في شعر الأديبة هيام مصطفى قبلان
- ديوان "لا أرى غير ظلّي" أنموذجًا - 
 د.جهينة عمر الخطيب
التشكيل البصري
أولى الشاعر اهتماما كبيرا بالتشكيل البصري  في خطابه الشعري، ونقصد به" توظيف الظاهرة البصرية في نسيج النص الشعري، ممّا يضفي أبعادًا جمالية ودلالية في جسد القصيدة، وهذا أتاح للشاعر فرصا أكبر  للتفنن في ممارسة التشكيل البصري على فضاء الصفحة الشعرية، ومن ثمّ امتلكت الهيئة الطباعية للقصيدة بعدًا كان يعدّ ثانويًا حتى وقت قريب، أمّا اليوم فقد أصبح مولّدًا للمعاني والدلالات في النّص لأنه ليس بالعنصر المحايد الصامت"  .
بدأت الكتابة البصرية تغزو الأدب الحديث وكأننا بها لا نكتفي بالإيقاع السمعي الذي تبثه الكلمات ، وإنما أضاف التشكيل البصري جمالية وإيحاءات ورموزًا كنوع من الانزياح الكتابي .
" يرتبط التشكيل البصري أساسًا بالرؤية التي تحيلنا للنّص المطبوع،إذ نتعامل مع الخطاب الشعري التشكيلي ورقيًا باستقراء العلامات الممنوحة للبصر والتبصر(العين،الخيال) وهذا الممنوح للتلقي البصري متشعّب، منه ما يتعلّق بالرّسم، ومنه ما يتعلّق بالخط، ومنه ما يتعلّق بالطباعة، ومنه ما يتعلّق بالسينما أي بالصورة المشهد( اللقطات، القصيدة على شكل مشاهد بصريّة متخيّلة) "

أما عن أهم الانزياحات الكتابية في التشكيل البصري:
تقنيات الكتابة البصرية الحديثة (تجليات التشكيل البصري بالطباعة)
1- الغلاف
2- علامات الترقيم
3- الرسم بالخط : مد الحروف
ويلخص الباحث  علي أكبر محسني طريقة الانزياح الكتابي بالنقاط الآتية:
- تمزيق أوصال الكلمة الواحدة من خلال فك ارتباطها الطباعي
- تفتيت الكلمة من خلال بعثرة حروفها.
- تقنية الفراغ والنقاط في جسد النص الشعري

وفي ديوان  الشاعرة " هيام قبلان" " لا أرى غير ظلّي" نراها تعتمد على التشكيل البصري في قصائد عديدة في ديوانها ، ومن مظاهر التشكيل البصري في ديوانها:
-الغلاف: فهو لوحة لامرأة عارية ملامحها غير واضحة ويغلفها ضبابية نوعا ما ، فهو ظل امرأة  عارية، وهذا يرجعنا للعنوان " لا أرى غير ظلّي"
فجاءت الألوان للوحة ما بين البياض والسواد ، فجسم الشخصية أبيض وشعرها أسود  وعنوان الديوان بالأسود يقابله اسم الشاعرة باللون الأحمر.
- تقنية الفراغ والنقاط في جسد النص الشعري
تطغى هذه التقنية على ديوان الشاعرة فجاءت موحية معبّرة عن المعنى من خلال علامات الترقيم المختلفة:
1-النقطتان:
وحشيّة أنفاسك تتسلّل إلى جُرحي
ووجه المدينة ملحٌ ضبابيٌ..
أَنيري يا نرجسة روحي
... مساحات الفراغ ...
كم كان لسطوتِك عزف نشيج الصّدى."
فوضعت الشاعرة نقطتين بعد ضبابي ، والنقطتان علامة الحذف، ولنا أن نتخيل هذا الملح الضبابي.
والضباب هو سحاب خفيف مكوّن من رذاذ الماء المتكاثف على الدخان يغشى الأرض ولا يمكث طويلًا،ويظهر غالبًا في الصباح
وربط الملح بالضباب هو ربط بين حاستين، حاسة التذوق لتمييز الملح وحاسة البصر لرؤية الضباب، وعندما  تجتمع الكلمتان مع بعضهما البعض،فالرؤية تزداد ضبابا لما يمثله الملح من مرارة.
بخطاك جمعتَ قناديلي العارية..
عتِّق لهفي برضاب النّدى..
لَزِجٌ.. ملمس قدومك"
نلاحظ النقطتين بعد عبارة" قناديلي العارية" التي تأخذنا إلى معان أخرى للعري، فهو جوف الفراغ والتشظي الذي يعتري الشاعرة
وبعد "لزج" نقطتان
اللزج:  لزج الشيء تمطّط وتمدد
رجل لزجة: ملازم مكانه لا يبرحه

2- ثلاث نقاط: وضعت الشاعرة ثلاث نقاط قبل عبارة" مساحة فراغ" وثلاث نقاط بعدها، معبّرة بشكل بصري عن مدى التشظّي والفراغ اللذين تشعر بهما الشاعرة. فساهمت النقاط بتوسيع المدى لإعطاء صبغة دلالية موحية لشدة هذا الفراغ. 
3-القوسان الكبيران: وقد وظفتهما الشاعرة من أجل توظيف التناص ، فاستخدمتهما في:
- التناص الأسطوري:
1- عند استحضار شخصية الإله أوزوريس:
" أينعت ( أوزوريس) بصيلة فرحي
... أمتشقك هالة..."
وأوزوريس الإله الفرعوني الذي تدل حكايته على البعث وانتشاله من قبل زوجته إزيس من عالم الأموات.
2- استحضار الإلهة " عشتار:
"لن استسلم للصمت
فالحلم فارس مجهول
وأنت كالريح تمشي على وجعي
تنتظر خاتم(عشتار)
وإكليلا من غار"
واستحضار عشتار رمز المرأة المثابرة الصامدة المخلصة لزوجها التي غاصت أعمق البحار لكي تنقذ زوجها.
- التناص الأدبي من خلال استدعاء شخصيتين:
• الشاعر الإسباني " فدريكو لوركا ":
" خبأت وجه (لوركا) في فنجان قهوتي
شربت رائحته حتى النخاع..
في مدينة الضياع يفتشون يا رفيقي
عن ورق الصفصاف
لون القهوة
غربة الوطن
نبيذ الأشقياء
ويرقصون رقصة الغجر"
وقد استحضرته الشاعرة لتتحدث عن القهر الإنساني وشعور الإنسان في غربته داخل وطنه، فقد كانت نهاية الشاعر الإسباني " لوركا" مؤلمة فتم إعدامه بتهمتين ألقيتا عليه ظلما كونه جمهوريا ومثلي الجنس .
• الشاعر الفلسطيني "سميح القاسم":وقد أهدته الشاعرة قصيدة أسمتها " فدريكو الشرق" وفي هذا تماه مع الشاعر الإسباني لوركا وقد رأت تشابها بينهما في القهر السياسي اللذين تعرضا لهما في بلادهما:
"تعال.. كل الحِراب استقالت..
في الجليل ولد ( فدريكو الشرق)
يستحم بماء الورد
سوسنة القلب أطفأت قنديل الحزن
وأنت مسكون بارتعاشة فراشة" .

4- التنصيص:
وقد وظفته الشاعرة عند اقتباسها لجمل وعبارات شهيرة:
" يا فؤادي لا تسل أين الهوى"  وهي من قصيدة الأطلال  للشاعر إبراهيم ناجي والتي غنتها أم كلثوم.
"توما .. ضع إصبعك في الجرح"
وهي عبارة قالها أحد رسل السيد المسيح عليه السلام، لم يؤمن بأن المسيح قد قام من بين الأموات، فوضع إصبعه في جرحه متفحصا.
5- علامة السؤال والتي تعبر عن حيرة تعيشها الشاعرة:
" لِمَ  لم تعرفني أيها النعش؟
.......
حين يكحلون جفنيّ بلغة الطفولة
هل تشتاق يا نعشي إلى من أحب
أم إلى من يحبّني"
وهي تساؤلات إنسانية ، فكم بالحري حين يتساءلها شاعر مرهف الحس
وخاصة الشاعرة المرأة فهي في مجتمع يكبلها لهذا نراها تقول" قد يطول رقادي في رحم امرأة
فيا حفّار القبر اجعل لنعشي بابا
ربما يعود بي الزمن إلى عشق قديم" .
فحتى لو كبّل جسدها بالقيود روحها ستخرج وتحلّق وقد تتقمص شخصية أخرى منطلقة.
6- الفاصلة المنقوطة؛
ومن أشهر استعمالاتها أن تكون بين جملتين تكون ثانيتهما مسببة عن الأولى أو نتيجة لها:
" أيها المسافر إلى بلد الضباب
تذرف عيناك مطرا على
سرير من ثلج
إن رحلتَ؛
أكفِّنك بثوب من نار
وأغنية من فل."
فإن رحلت وغادرت وطنك سأكفنك بثوب من نار ، فكيف تترك بلادك للضياع وتهرب.
7- نقطتان رأسيتان:
وقد وظفتهما الشاعرة في حوار الأنثى مع الرجل وحاجتها للانعتاق فيه ومن خلاله:
"يا أيها القادم من زمن الرحيل:
أعدني نسمة
وغنوة
وشالا نسجَتْه عروس الورد من ريح الشتاء
....أنا لا أنادي على العمر
بل أنادي عليك
لتعود الفراشات تغفو
قريرة العين بين ذراعيك" .
8- إشارة
هو ذا.. أنت يا حارس الجفن
تغفو كنجم على
سريري النحاسي..
وردة بتولا كانت طفلة النهر
لا تُشعل زبد وقتي
بجمرة الأنّارة يتماهى نغمي
على صيحتي فيك
وتصير أناي الهاربة
ألْتشاغلني في مساءاتي
حبّة في عنقودي..
أتدثّر بثوبي الفضفاض
وأقضم ..سعادتي"
إن تقطيع الكلمة الأنة وهي الوجع يحمل وجعا أكبر فهو موحٍ بمدى الوجع وحدّته.
وفي قصيدة أخرى نرى تقطيعا آخر:
"استحضرني
يا نبضة في القلب هتفت
اعتق الروح/
كدت تخنقها..
أيها الجلَّاد الذي تنام قرير القتل"
وجاء القطع بين تضادين عتق الروح واختناقها وهذه الإشارة تدخلنا في حالة محاولة الخنق واستمرارها .
9- علامة الانفعال !
وقد وظفتها الشاعرة عند خوضها في الجنس الإيروسي ، فالجنس في كتاباتها كان موحيا، فمن خلال اتحاد جسدي الرجل والمرأة ، أرادت أن تقول المرأة ليس جسدا عاريا ، المرأة تلاحم جسدي وعقلي :
" أوتسأل
وأنت لبق الدهشة
ونعناع الحرف..
كم كان لرجف رذاذك
عصارة اللقاح! .

- تفكيك وحدة الجملة: فتكون كل كلمة منفصلة عن الجملة رغم ارتباطها بها من ناحية المعنى:
"أيها
السّاقط
على
ومضة خريفي
يرتعش قلبي الخَدَاج"
وقصدت الشاعرة من هذا البناء تصوير معنى السقوط، فتساقطت الكلمات واحدة تلو الاخرى  لنتخيل سقوطه المعنوي على " ومضة خريفها".
"يشهق الفراغ
لا أرى غيرَ ظلِّي
أنزلق
       في
           متاهة
                  أنَاي
ملحٌ يتماهى،
وَمِخْرَز،
وَ...
أفقِدُ.. لوني."
نلاحظ الشكل اللولبي في كتابة الكلمات بشكل تنازلي، تعبيرا عن المشهد الذي تقوم الشاعرة بتصويره، وهو مشهد الانزلاق أنزلق وأسفلها في ومن ثم متاهة  وأناي ، لتعبر عن حالة الفراغ والتّبعثر والتناثر اللذين تعيشهما
ونرى الصوة البصرية حاضرة هنا بقوة فنتخيل رؤيتنا لهذا التشكل البصري في عملية السقوط.
" يا بلسمًا
لامس الجرح
طفلة بين ذراعيك.. أنا
وزهرة فلّ
رماها
على
الدّرب
سفر."
فهنا تسجيد للفعل "رمى"

- تفتيت الكلمة من خلال بعثرة حروفها على الصفحة
" إنّه وقت الاعتذار
يا سيِّد الحلم:
سَ
قَ
طَ
الحلم."
فجاء تفتيت كلمة "سقط" من خلال بعثرة حروفها من أعلى إلى أسفل بشكل يوحي لمعنى السقوط.

- تجليات التشكيل البصري على مستوى الرؤية 
وهي أن نقرأ بحواسنا الخمس ، فنرى ونسمع ونشم ونلمس ونتذوّق، وقد اتضح هذا في ديوان شاعرتنا لا سيّما عند خوضها الموضوع  الإيروسي. "فالتشكيل البصري بتقنيات السينما مكّن الشعر من الوصول إلى القارئ ليس عبر صور ثابتة يتم تركيبها في ذهنه، بل عبر صور متحركة وديناميكيّة، ويتولّى الذهن استقبالها فقط دون تركيبها، لأنّها أصلا مركّبة بإجراءات تصويريّة معيّنة يتولّى الشاعر إخراجها، إذ يختار سيناريو القصيدة واللقطات والمشاهد وكذلك تركيب المشاهد(المونتاج) على وفق رؤيته الفنية الخاصّة" .
" بين بحرك ونكهتي
برعمة لمسٍ
تأوّه..
تساقط..
في عُرْي جمري
ساوم على ضفائري
وكرزي
ووشم أنوثتي..
راوغ منطقة اللهب" .
فتتكاتف هنا الحواس جميعها في ممارسة الحب وكأننا أمام مشهد أيروسي يحضر فيه اللمس والشم والبصر والسمع:
اللمس: برعمة لمس، راوغ منطقة اللهب
السمع: تأوّه
البصر: تساقط - حدقة العين
الشم: رائحة الجرح  - ساوم على ضفائري وكرزي ووشم أنوثتي
الخاتمة
تعي الشاعرة هيام قبلان أهمية  التشكيل البصري، فقامت بتطبيق ظواهره في قصائدها . ومن هنا جاءت الدراسة للتركيز على المظاهر البصرية في شعرها مع تبيان مدى الاتساق بين الدلالة البصرية والدلالة العميقة للنصوص الشعرية.
فشملت الدراسة التقنيات البصرية وتجلياتها على مستويين :
تجليات التشكيل البصري بالطباعة وشملت:
الغلاف 
علامات الترقيم
تفكيك وحده الجملة
تفتيت الكلمة وبعثرة حروفها
وقد وظّفت الشاعرة هذه التقنيات لإيصال معانٍ موحية، موظّفة الحواس جميعها.
- تجليات التشكيل البصري على مستوى الرؤية من خلال تصوّر المشاهد في القصيدة بمناجاة الحواس جميعها فنشاهد ونلمس ونتذوق.
هيام قبلان شاعرة قديرة متمكنة من أدواتها، تبعث روحا في حروفها تستحق الحياة .

ليست هناك تعليقات: