إن تيارات المسرح في العالم تتطور انطلاقا من هذا الموقف يمكن القول إن المسرح منذ نشأته مر بالعديد من الأفكار والنظريات والتيارات بما يجعله كائنا ينمو في الزمان ولا يستقر أو يثبت على حال واحدة ، وأنه في روحه تجريب كل مرحلة ناسخة لأختها، فثنائية الهدم والبناء أكثر التصاقا وتعايشا مع هذا الفن تخصيصا، مقارنة مع فنون وأشكال تعبيرية أخرى، إذ بجرد وجيز للفترات المشكلة لتاريخ المسرح منذ نشأته التي يمكن العودة بها إلى حوالي القرن الخامس قبل الميلاد نلاحظ سيادة نظرية دون غيرها تحكمت في الذوق الجمالي العام خلال هاته الفترة أو تلك.
في القرن الثامن عشر في إيطاليا ظهرت "لاكوميديا ديللارتي" ليأخذ التمثيل خصوصيات أخرى كعدم اعتماد النص المكتوب والاكتفاء برسم الخطة العريضة للعرض المسرحي في حوار ارتجالي مع استخدام الغناء والرقص، ولكي ينجح الممثل لابد أن يكون جريئا وسريع البديهة، وقادرا على التخيل والسخرية وتعرية الواقع تلك الجرأة يحولها التخيل إلى رسالة تدعو الجميع إلى التمسرح في غياب المسرحة التي غابت مع غياب النص لنجلو المجال لأروع مسرح تلقائي عرفه تاريخ هذا الفن، مسرح يرفض ممثلوه أن يكونوا كأطفال المدارس يستظهرون ما سبق أن لقنوا إياه، فكانوا يعدون الفكرة ليلا ليناقشوها مع مدير المسرح في الصباح لتكون عرضا دراميا واحتفالا مسرحيا في المساء، اعتمادا على الممثلين الذين كانوا يملكون رصيدا ثقافيا، وكانوا يوظفون النوادر والأحاجي والألغاز والألعاب والحكايات والأغاني مستلهمين أفكار الشخصيات التي يؤدونها من مجريات اليوم وظروف المكان ومستغلين الظروف لصالحهم، وبذلك يخلقون بينهم وبين الجمهور تيارا دافقا من الهزل والدعابة، في جو أسهم الجميع في نسجه بقيادة "أرلكي" و"بنتلون دون جوان"، ويتحول الخيال إلى متخيل، وبه تتم عملية التمسرح بين الجمهور والعرض المسرحي في سردية تعتمد على ردود الفعل التالية: الضحك، البلبلة، الفوضى المنظمة تلقائيا، الهزل، الأحلام، التهريج، الوقاحة، الشعر والحب7.
وقد قال شكسبير عن هؤلاء الممثلين على لسان "هاملت": "إنهم ينشرون الهواء بأيديهم، ويمزقون عواطف الناس إربا، ويفوقون "هيرودوث" في المبالغة، ويصمون آذان السفهاء"8.
وكان شكسبير آنذاك في فرقة يرأسها "ريتشارد بيرباج" واسمها رجال أمين الخزانة، وكانت إلى جانبها فرقة أخرى تدعى رجال أمين البحر ويترأسها "إدوارد إلين"، وذلك في العصر الاليزابيتي9.
ومما لاشك فيه أن الطبيعية كمرحلة أعقبت التيار الرومنسي قد جاءت كتيار يسكنه الشعور النفسي بالإحباط والفشل الذي تعانيه البرجوازية المتوسطة بعد إخفاقات الثورة الفرنسية منتقدة الإغراق في العواطف الجياشة والسوداوية، والابتعاد عن الواقع، والسباحة في الخيالات والأوهام باسم الحرية والانفرادية، والذوق والعبقرية، بهذا الصدد كتب إميل زولا واصفا شكلا خاصا وجذريا من الواقعية، ومهاجما ما يمثله البلهاء ذوي النوايا الحسنة الذين يحاولون أن يسموا نتاجهم بميسم الواقعية. جاءت الواقعية إذن لتصور الواقع كما هو، والمفترض أن الكتاب الدراميين لهذا التيار هم من أنصار العلمية التجريدية التجريبية تشبها بالعالم المجرب الذي لا دخل له فيما يقع تحت نظره، إنه فقط يلاحظ ويصف ويقارن ويستنتج، وقد كتب زولا يقول: "إن الطبيعية في الآداب هي التشريح الدقيق، وقبول ماهو كائن ووصفه"10. وعند الحديث عن اتجاه الواقعية، أو الواقعية الطبيعية لابد وأن نميزه عن الواقعية الاشتراكية التي مثلها "برتولد بريشت"، بالرغم من أنها شكلت تمهيدا قويا للخروج بالمسرح من نمطه الأرسطي الاتباعي الممثل في تكسير الإيهام ومبدإ التطهير( الكاتارسيس) ، وقاعدة الوحدات الثلات. إن الواقعية تحاول تصوير الواقع كما هو دون تنميق خلال الطقوسية المسرحية، ومن الأكيد إن نحن أردنا تجذير الواقعية، أو الواقعية النقدية أو الواقعية الطبيعية وكلها أسماء لمسمى واحد، نجدها قد انحدرت من تصورات وأفكار "دينيس ديدرو"(1713-1784)، و"إميل زولا"(1840 -1902) ، و"الفونس دودي"(1840-1897)وغيرهم كثير وقد نجدلها جذورا سواء من المفكرين الذين عاصروا هذا الاتجاه أو القدامى.
كان زولا الذي سيستفيد منه "لويجي برانديللو" كثيرا يمتلك رؤيا واضحة لنوع جديد من المسرح استطاع أن يصفه بالتفصيل، يقول زولا: "من اجل أن نفهم الحاجة إلى ثورة في المسرح ينبغي أن نثبت بوضوح موقعنا اليوم، ففي غضون المرحلة الكلاسيكية بأسرها، كانت المأساة ذات سلطة واسعة ومطلقة، كانت متحجرة، غير متسامحة، ولم تمنح جمهورها قط لمسة من لمسات الحرية، مخضعة أهم العقول لقوانينها القاسية"11.
ولعل أهم انتقاد وجهه زولا للدراما السائدة، التشويه التي سقطت الدراما التاريخية في هويته، وبخاصة الدراما الرومنسية ويعود معظمه إلى استنفاذ النوع الفني ذاته فحلت محل الأعمال القوية مسرحيات مضحكة مضجرة 12.
لا تقف انتقادات زولا عند هذا الحد فهو يهاجم الأعمال الكلاسيكية ومناصري الدراما التاريخية الذين يحاولون إحياء التبختر، واللعب بالسيوف، والمشاهد الكبيرة ذات الكلمات الكبيرة، والتلاعب بالأكاذيب للتظاهر أمام الجمهور، والاستعراضات الفاضحة التي تحزن الأذهان المخلصة13، ومن رأيه يجب أن تودع كل هذه الأعمال العتيقة في متحف خاص بالتاريخ الدرامي تحت طبقة من الغبار الورع.
تنبغي الإشارة إلى أن المرحلة الثانية للكلاسيكية الجديدة أو المسرح الأرسطي الاتباعي حوالي القرن السابع عشر قد رفعت شعار العودة إلى الماضي ترجمة واقتباسا وعرفت مؤسسين ورواد نذكر منهم من فرنسا: "موليير" و"كورني" و"راسين"، ومن إنجلترا: "توماس كيد" و"شكسبير" و"بن جونسون"، ومن إسبانيا: "لوب دي فيغا" و"كالدرون دي لاباركا"، ومن ألمانيا "غوت" و"شيلر"، وهي الفترة التي عرفت شيوع المرتجلة كجنس مسرحي، ويمكن أن نشير بهذا الصدد إلى "ارتجالية فرساي" لموليير( 1622-1673) .
بعد الخلخلة التي أحدثها "زولا" الذي يتوقف عنده " إريك بينتلي" طويلا في الممارسة المسرحية الغربية، وتورثه على النمط الكلاسيكي الأرسطي السائد من حيث تصوره للبناء الدرامي وللنص وللتصميم المسرحي واللغة والأزياء والممثل، ستظهر أعمال قوية للويجي برانديللو (1867-1936): "ديانا والمثال"- "الحياة عطاء"- "لذة الأمانة "- "كل شيخ له طريقة"- "ست شخصيات تبحث عن مؤلف"، و"الليلة نرتجل"14.
وفي عمليه الأخيرين "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" و"الليلة نرتجل" يبحث "برانديللو"عن الحقيقة بين الواقع الداخلي والواقع الخارجي الذي يتمثل في العمالقة الذين يحطمون عالم التمثيل الذي يعلن لهم الحقيقة لأنهم يسيئون فهم الدمى التي عرت لهم عن تلك الحقيقة. يقول "برانيللو ": قال نيتشه: "إن اليونان نصبت تماثيل بيضاء أمام الهاوية لكي يحجبوها عن الأنظار، أما أنا فأحطم التماثيل لأكشف عن الهاوية"15 ويبدو أنه قال هذا الكلام ليظهر فقط للجمهور الذي شاهد عمليه الأخيرين أن التمثيل الذي ظهر منذ البداية وكأنه شأن من شؤون الحياة اليومية ليس في حقيقته إلا وهما وخيالا متقن الصنع، وهو ما سيعاكسه في آخر حياته من خلال المسرحية التي مات قبل أن يتمها "عمالقة الحبل" 16
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق