الخميس، 7 نوفمبر 2013

أخوَّة المطار.. ذة . دليلة حياوي

أخــوَّة المطار ...
 دليلة حياوي 

على مدار الشهور الأخيرة آثرت التقوقع أو التكوُّم حول الذات.. اقتداءً بالمخلوقات ذات الدم الحار التي تدخل في بيات كل شتاء تجنبا للفناء.. لكن بياتي ارتأيته لكل الفصول.. بمعنى أنني قررت الانسحاب من المشهد الجيوـ سياسي والجيوـ ثقافي و”الجيوـ كلّ شيء” مغربي!.. ليس نفورا من بلدي.. ولا تنطعا أو مروقا مني تجاه بقعة أنبتتني وسأظل أغبط نفسي على الانتماء إليها.. وكيف لا وهي بقعة ساحرة في طيبة؟!.

شموخ جبالها يغرس في الأعماق سمو الخلق والخُلُق.. سامق نخيلها يدعو الهامة للتمثل به رفعة وكبرياءً.. بياض ثلوجها يضفي على البصر أطيافا شفافة.. رقراق وديانها وبحارها يحفز الروح على العطاء اللامشروط.. اخضرار سهولها يطبع على المحيّا البِشْر.. رحابة صحرائها تبذر بالجوانح الصبر والأمل.. ودفء شمسها يحيط الناصية بهالات لامتناهية من أنوار سَنِيّة.. تحمل كل متذوق للجمال بشتى تلاوينه للاستنارة بدواخله لدرجة الاصطلام!.. ويا لها من متعة لن يعيها سوى من حامت نفسه حول السُّرُج الوهاجة، ولُسِعت أجنحته وهو ينير ظُلمة الغير..

كنت أقول ليس تنكرا لبلدي لكن لأحمي نفسي من الانقراض في زمن ليس زمني.. أو هكذا خُيِّل إلي.. على الأقل بعد تلكم الهزات التي عشتها أو شاهدتها.. وبالتالي كان أبطالها يقاسمونني مع كامل الأسف الانتماء ذاته.. وعليه.. أقنعت نفسي بالعزلة.. والاكتفاء بما يبلغني من أحداث البلد الأم أو المضيف.. ومع الأسف كانت في مجملها أحداث تُفيض بكرمٍ مداداً أسودَ على بصري.. كيلا أقول بصيرتي.. وتجعلني أرى الأفراد والمواقف على حد سواء في سباق نحو مسرح الحياة وقد اتشحوا جميعا بالسواد.. كما كتائب جهاد النكاح التي درّبت فضائيات الخريف العربي في كهوف تورابورا الفكرية.

وظل هذا دأبي لشهور رغم محاولة الأصدقاء ـ مغاربة مالطا وفرنساـ إثنائي دون جدوى.. حتى لفّني نورٌ ذات فجر وبعض المغاربة بمطار أول ثم ثانٍ.. ثم ثالث.. ثم رابع على التوالي ولما يزيد عن ستة وثلاثين ساعة.. قضيناها معا.. وتجاذبنا خلالها الأمل والألم.. الحب والغضب.. السكينة والضغينة.. الحلم والشجن.. ثم سار كل منا إلى حال سبيله.. ولم نتبادل العناوين ولا أرقام الهواتف.. لأننا لسنا بحاجة إليها.. مادامت دواخلنا يسكنها الخير وتهتف لأجله..

كنا سبعة.. ثلاث نساء مغربيات وثلاثة رجال مغاربة.. وسابعتنا إيطالية منكسرة الروح، كانت عائدة بخفي حنين من زواج سبق الخذلان موعده بالمغرب..

سجلنا أمتعتنا بالمطار الأول.. دون أن ينتبه أحدنا للآخر.. إذا استثنيت ذلك الحس العالي في التعامل والخطاب الذي آنسته من سيدة كانت تنتظر دورها لإيداع حقائبها.. وجعلتني أناقة هندامها أظن بأنها تسكن بباريس.. ولا تسألوني لماذا!..

ونودي على رقم رحلتنا بصوت رخيم ما أشبهه بصوت “بهيجة إدريس” وهي تترنم بقصيدة الملحون “المالحة”.. يفيد بأن طائرتنا المتوجهة إلى الدار البيضاء ثم روما ستقلع بعد قليل.. وانقضت ربع ساعة ثم نصف ساعة.. ثم ساعة كاملة.. ثم بدأنا في التذمر والشكوى.. واللغط والصخب.. ليعلن الصوت ذاته لكن بنبرة تعكس نشازا غير مسبوق هذه المرة عن كون الرحلة ستشهد تأخيرا يشارف على الأربع ساعات بسبب رداءة أحوال الطقس.. على الرغم من زرقة السماء الصافية البادية من النوافذ!..

جررت حقيبتي وتهالكت على مقعد بالصالة كانت تجلس في طرفه شابة أوحت إلي ملامحها بأنها من أمريكا اللاتينية.. ولا تسألوني لماذا أيضا.. فحدسي كان يومها في عطلة على ما يبدو!.. ثم تبعتني ذات الأناقة الباريسية.. وتوسطتني وذات الملامح الأمريكوـ لاتينية.. ثم ما لبثتا أن بادرتا بعضهما بالسؤال بعاميتنا الممزوجة بمفردات فرنسية وإيطالية.. وتناسلت الأسئلة على نحو عجيب.. حيث أخذت أول الأمر طابعا جغرافيا.. ثم عرقيا.. ثم اقتصاديا.. ثم علميا.. ثم اجتماعيا ولنقل عنه تجاوزا تاريخيا.. ثم دينيا..

غاظني الأمر وأخذت أجول بناظري يمنة ويسرة علني أظفر بمقعد في الصالة.. ولما أعياني البحث استسلمت لقدري قربهما.. مُشيحة بوجهي عن الاثنتين.. ومغمغمة:

ـ “بنو وطني أحرص الناس على الالتزام بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم.. فقط متى تعلق الأمر بالنكاح والهجرة: ” واضربوا في الأرض”.. وبالفعل فأنَّى ضربت.. تجدهم قد ضربوا قبلك أو ها هم يضربون معك.. برا وبحرا.. وجوّاً أيضا”..

وشيئا فشيئا.. بدأت أسماعي تتحرر من نفورها ذاك.. وتستلطف حديثهما.. اعتباراً بكون السيدتين ترتبان لِمَدِّ يد العون لشاب مغربي تُعوزه الخبرة واللغة أيضا.. سيشاركنا الرحلتين اللتين أصبحتا أربعة!.. قاصدا روما لأول مرة ثم نابولي للالتحاق بعمله الجديد الذي كلفه سبعة آلاف يورو.. بمعنى أن الشاب لربما باع أو رهن لدى بنك ما قطعة أرض فلاحية ورثها بقريته أو بضع بقرات تمتلكها أسرته.. ليلتحق بزمرتنا نحن المغاربة القاطنين بالخارج.. ليصبح عددنا ما شاء الله أربعة ملايين ومهاجر مغربي واحد! لماذا؟.. لا أدري!.. فبدوري لا أعلم سببا محددا لهجرتي.. سوى الرغبة في الوحدة أثناء ترميم شتات نفسٍ طالت تشظيتها..

وهكذا.. كانت السيدتان تتقاسمان الأدوار المُقبلة فيما بينهما.. ما بين ترجمة لدى مصلحة الجوازات بمطار روما.. أو الجمارك.. أو مرافقة المهاجر الجديد حتى محطة القطار بوسط المدينة ومساعدته في ابتياع تذكرة باتجاه نابولي وحمله حتى رصيف المغادرة.. كل هذا كان يتم في غفلة من الشخص المعني.. المُنزوي بعيدا.. والذي ساقه حظه دون سابق معرفة للاستفسار من ذات الأناقة الباريسية.. عفوا أقصد الرومية لأنها من ساكنة روما.. عن الترتيبات التي يجب اتباعها وكيفية تتميم الإجراءات الإدارية الخاصة بدخوله إلى الديار الإيطالية مشيرا إلى كونها رحلته الأولى صوب المجهول.. ليكون استفساره ذاك حافزا لاستنفار الشهامة التي تختزنها السيدة الأولى وتعم العدوى السيدة الثانية.. وما أعذبها من بلوى.. رقت لها أعماقي أنا الأخرى.. فقد كانت كلمات السيدتين تخترقني كما الشهب.. ووجدتني لا شعوريا أحرر لساني من قيوده وأزج بنفسي معهما في الحديث متقصية دورا.. ولكم كانت سعادتي بالغة ونحن نهدئ روع بعضنا البعض.. نشد من أزر بعضنا البعض.. نبتسم في وجه بعضنا البعض.. نهون عن بعضنا البعض.. نبوح لبعضنا البعض.. ندافع عن بعضنا البعض.. ونلملم دمع بعضنا البعض.. بعدما أصبح عددنا سبعة نحن التائهين ما بين المطارات الإفريقية ثم الأوروبية على مدار ستة وثلاثين ساعة.. الشيء الذي جعلني أوقن لدرجة الإيمان.. بأن أعماقنا المغربية لازلت بخير.. مادامت مأهولة بالطيبة..

وكل سنة هجرية والمغاربة داخل وخارج الوطن بسعادة وراحة بال!


------------
دليلة حياوي Dalila Hiaoui
شاعرة وكاتبة Poetessa – Scrittrice
أستاذة لغة Prf.ssa di Lingua 
وثقافة عربية & Cultura Araba 
روما ـ إيطاليا Roma- Italia 




ليست هناك تعليقات: