الاثنين، 9 سبتمبر 2019

في السياسة، تنظير فارغ: غزة هي الحل - د. رياض عبدالكريم عواد

في السياسة، تنظير فارغ: غزة هي الحل
د. رياض عبدالكريم عواد
كان أحد الاصدقاء يتوقع أن يعود سريعا للعمل مديرا للمستشفى التي غادرها وأُُقصي منها، مرت الايام والسنون الطويلة واُحيل صديقنا إلى التقاعد بسبب العمر، ولم يرجع إلى المستشفى التي أحب، لا مدير ولا حتى طبيب. الواقع اعقد من الرغبات والأمنيات.... وهكذا أيضا السياسة تعمل خارج امنياتنا ورغباتتا، وأحيانا كثيرة بالضد منها، بل وتجبرنا احيانا على تجرع العلقم والمر، إلى جانب واقعنا الاسود؟!


يعرف أي متابع للسياسة أنها ليست رغبات وأمنيات وان عوامل ثلاث تتداخل مجتمعة في إنتاج أي حدث، وأن النتائج هي محصلة للصراعات والتحالفات والتناقضات بين هذه القوى. ان معرفة هذه البديهية البسيطة تلعب دورا هاما في وعي وفهم الواقع والمآلات التي يمكن أن يصل إليها. تعمل هذ العوامل الثلاث طبعا مجتمعة، ويكون لكل واحد منها وزن وتأثير وفقا للقوة الموضوعية والذاتية التي يملكها هذا العامل/السبب المحدد. ان السياسة تتأثر وهي نتيجة لفعل العوامل الداخلية والإقليمية والدولية، ولا يمكن فهم السياسة وممارسة التغيير دون وعي ذلك.
يتحول احيانا، خاصة في ظل ظروفنا، حيث الضعف والهشاشة وسهولة الاختراق وعدم مناعة الجبهة الداخلية، يتحول في مثل هذه الظروف العامل الإقليمي والدولي إلى عامل فاعل داخلي مقرر، يفوق بمرات عديدة العامل الذاتي، الذي كان من الواجب أن يكون له التأثير الأبرز في سيرورة وصيرورة الحدث، ليبيا سوريا اليمن أمثلة واضحة.
في وضعنا الفلسطيني
اختلف الفلسطينيون طيلة الاثنى عشر سنة الماضية، واعتقد أن خلافهم واختلافاتهم، ستطول في تعريف ما حدث في غزة، هل هو حسم أم انقلاب، هل هو صراع على السلطة أم صراع بين برنامجين، هل الادعاء بعدم تمكين حماس التي نجحت حديثا في حينه في الانتخابات هو الدافع الحقيقي وسبب ما حدث، أم أن هذا الذي حدث اتى في سياق ومطلب ومخطط تقاطعت فيه العوامل الثلاث الداخلية والإقليمية والدولية. أدى هذا الاختلاف في فهم ما حدث إلى مقاربات ومفاهيم غير موضوعية للحل: انقسام، مصالحة، طرفي الانقسام........
أن اغتيال عرفات وقتل رابين كان ايذانا بإعلان نصر اليمين اليهودي القومي على اوسلو، التي اتت بالمخربين من الخارج وتسببت في قتل اليهود واجبرتهم على الانسحاب من أجزاء من أرض الميعاد، لذلك يجب سرعة قتلها ودفنها والتراجع النهائي عن فكرة حل الدولتين والبحث عن طريق آخر لحل المسألة الفلسطينية، ولتكن غزة هي الحل!
تلاقى خيار اليمين اليهودي القومي بالموافقة على "غزة هي الحل" للمسألة الفلسطينية، مع رغبة الاخوان المسلمين في إقامة دولة أو سلطة لهم في غزة، تكون بروفة ناجحة لما يخططون له في إعادة هندسة دول المنطقة العربية، وفقا لرؤيتهم وايدولوجيتهم، وهذا ما ظهر جليا فيما عرف بعد ذلك بالربيع العربي، لذلك كان خيار "غزة هي الحل"، وهي الدولة هو خيار الاخوان المسلمين الذي تقاطع مع خيار اليمين الصهيوني.
ولم تكن الإرادة الدولية ممثلة بالادارة الامريكية في عهد أوباما بعيدة عن هذا الخيار التي كلفت قطر بصورة علنية وآخرين من تحت الطاولة برعاية وبمتابعة وتمويل وحراسة هذا المشروع والعمل على انجاحه، كنموذج ناجح ومقدمة تجريبية لما أراده أوباما والإدارة الأمريكية من نقل السلطة وتسليمها، في الدول العربية الرئيسية تحديدا، الى الاخوان المسلمين.
هكذا تقاطعت كل العوامل واتفقت، ومازالت متقاطعة ومتفقة وبصورة أكبر وأعمق، على خيار "غزة هي الحل"؟!، كحل استراتيجي للمسالة الفلسطينية، يقف بالضد في وجه المشروع الوطني المتمثل بإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وفقا لقرارات الشرعية الدولية. ان كل ما نراه من اجراءات على الارض بدءا من تجفيف موارد الأونروا ومحاولة إلغائها وإنهاء قضية اللاجئين، وتجفيف موارد السلطة المالية، وصولا إلى مؤتمر البحرين وحقائب قطر المالية، والنفخ السياسي في الأطراف المحلية، وصولا إلى ما يسمى صفقة القرن وقرار الاتحاد الأوروبي الجديد برفع حماس من قائمة الارهاب، كل هذه الإجراءات وغيرها تصب في اتجاه مشروع "غزة هي الحل"!
ان النضال المطلبي، بكافة أشكاله، هو حق اصيل وشرعي من حقوق الجماهير، يجب على من يريد أن يتصدى له ويساهم في حل مشاكل غزة السياسية والاجتماعية أن يعي جيدا هذا التاريخ، والأحداث والقوى الكبيرة الفاعلة التي تقف من خلفها ومازالت تصر على انجاح هذا المخطط/المشروع والذي يواجه بالرفض الوطني من شرائح هامة من الشعب الفلسطيني والسلطة الوطنية وقيادتها، التي تحاول استخدام مختلف الوسائل لعرقلة ومنع انتصار مشروع: غزة هي الحل؟!
لا يمكن مواحهة هذا المشروع، الدولي الاقليمي، الا بالوحدة والالتفاف حول المشروع الوطني وممثله الوحيد السلطة الوطنية و م ت ف، بعيدا عن الرغبات والاتهامات.
بعيدا عن رغباتنا وأمنياتنا، لا يمكن النظر لمشاكل غزة الاجتماعية كمشاكل ادارية او فنية، ولا يمكن حل هذه المشاكل بعيدا عن السياسة، كما أنه لا يمكن حلها بالقطاعي، بل انني اتوقع ان تتعمق هذه المشاكل وتزداد حدة وضغطا على الشرائح المحتاجة، الضحية، التي لن يسعفها حظها بتحقيق بعضا من أمنياتها في الحياة الكريمة، كما لم يسعف الحظ من قبل صديقنا في تحقيق امنيته ليعود مديرا لذلك المستشفى؟!
من جديد لابد أن نكرر انه لا حل للقضايا الاجتماعية الا الحل السياسي، ولا حل سياسي الا الحل الوطني، وغير ذلك اوهام؟!

ليست هناك تعليقات: