الجمعة، 2 نوفمبر 2012

من المثقف الحزبي إلى المثقف النقدي د. محمد سبيلا

من المثقف الحزبي إلى المثقف النقدي   د. محمد سبيلا
د - محمد سبيلا
ازدهرت في العالم العربي مقولة المثقف الملتزم أو المثقف الحزبي،المناضل من أجل الكادحين، والطبقة العاملة، وعموم الشغيلة والفئات المهمشة بين الخمسينات والسبعينات من هذا  القرن ( يقصد القرن الماضي) نتيجة الانتشار الهائل للأفكار الاشتراكية و الماركسة، وازدهار الأحزاب اليسارية.

المثقف الملتزم ( أو الحزبي ) هو المثقف الذي يضع قدراته الذهنية والتنظيمية والحركية في خدمة القضية الأولى قضية الشعب، أو البروليتاريا أو الطبقات الفقيرة عموما. كان هذا المثقف شخصية كارزمية، رسولية، محملة بهم تاريخي واجتماعي ضخم، فهو صاحب رسالة، وهو المرشد الإيديولوجي، والمؤطر السياسي، و المخطط الاستراتيجي، تنداح الحقائق من فمه كما ينساب الماء الرقراق من الأعالي. شخص طاهر على العموم، وعلى الرغم من عقده الشخصية المتمثلة في نوع من البحث الدؤوب عن الاعتراف بالتميز، فهو يتسم في الغالب بالغيرة والتفاني.

هذا الشخص الطوبـاوي ينذر وقتـه، وقدراتــه وممتلكاتــه فــي سبيـل تحقيـق الهدف الـذي «يؤمن» به. فهو مستعد للدخول إلى السجن أو حتى الإعدام ولكل أنواع التضحية لأنه وهب حياته سلفا لخدمة القضية الكبرى قضية تحرر المجتمع من السيطرة الطبقية، ولأنه يعتبر أن الالتزام هو القبول بالموت و التضحية.

لم يكن لدى المناضل الحزبي، الملتزم، في تلك الفترة أو على الأقل لم تكن تتضح لديه طموحات سلطوية أو مالية باستثناء حرصه على «الجهاز» الحزبي، وإقامة نوع من العلاقة « الوجدانية» مع كل ما يتعلق بالحزب حيث يشعر أنه في بيته، وبين عائلته و«ذويه». لم تكن الأعراض الانتهازية في مراحل النضال تلك، مراحل الصراع مع «العدو الطبقي» الداخلي و الخارجي، أعراض واضحة. فقط بعد ارتخاء الحقل السياسي، وبداية الدخول التكتيكي في مسلسل المصالحات و التنازلات و التبادلات مع الأنظمة بدأت تظهر عليه بعض الأعراض المذكورة و التي كانت لا تبدو إلا بشكل جنيني و أولي في مراحل الصراع السابقة.

هكذا تحول قسم لا بأس به من المثقفين الحزبيين نحو استبدال المثال بالواقع، و الحلم بالامتياز، و اليوتوبيا بالمكاسب، وذلك بموازاة عملية الاندراج التدريجي في دواليب التجربة السياسية و الديمقراطية الجديدة. هكذا تتحول الدغمائية الإيديولوجية إلى حربائية سياسية، و الصلابة المذهبية إلى رخاوة و مرونة، ويتحول التكتيك إلى استراتيجيا كاملة.

هذا بينما يستفيق قسم آخر من الانتلجنسيا الملتزمة على واقع جديد قوامه «الواقعية السياسية» و «تدبير الأمر الواقع»، يستفيقون من سباتهم الدغمائي الإيديولوجي،ويكتشفون «نهاية اليقينيات» و خسوف الحقائق السياسية المطلقة التي نظر لها وبشر بها المثقف الملتزم، مستخلصين الدرس التاريخي الأساسي الذي لا يكتشفه و لا يفهمه إلا من عاناه و مارسه. وهو أن المثل و القيم النبيلة و اليوتوبية ليست حقائق مطلقة تسبح في زرقة السماء، بل هي «أفكار» و آراء تمر عبر حاملها وتتكيف وفق نفسيته و مطامحه و رغباته.

هنا يحصل الانتقال التدريجي من المثقف الحزبي الملتزم ( الذي يتبين أنه ليس إلا الصورة الأخرى لما ندعوه في المغرب بالمثقف المخزني أي المثقف المرتبط عضويا بجهاز الدولة) إلى المثقف فقط أي المثقف الجديد، المثقف النقدي.

كان المثقف الحزبي الملتزم يصف المثقفين الرسميين بأنهم «كلاب حراسة»، لكن الأيام بينت بأن المثقف الحزبي لم يكن يقوم بغير ذلك أي بغير الحراسة و الدفاع عن المؤسسة الحزبية بكل الأشكال و كأنه أحد حراس الحقيقة التي تعتبر إيديولوجيا الحزب، وخطته ومواقفه بالنسبة له نموذجا لها. لم يكن المثقف الحزبي في الكثير من ملامحه إلا الصورة الأخلاى للمثقف المخزني(مثقف السلطة).

أما المثقف الجديد فهو مثقف يضع نفسه خارج القوالب الفكرية و الإيديولوجية و السياسية الجاهزة التي كان المثقف الحزبي يقولب “أفكاره” فيها. وذلك لأنه ينطلق من بديهية بسيطة و هي أن الحزب لا يفكر و الجماعة لا تفكر، فالذي يفكر هو الفرد. و الذي يفكر للحزب هو رئيسه أة منظره الاستراتيجي أو في احسن الحالات أعضاء قيادته السياسية ( بدرجات متفاوتة). بعد ذلك يتم تلفيف هذه «الأفكار»  و تعليبها، و تسويقها على كافة أعضاء الحزب ليتداولوها كحقائق نهائية مطلقة لا رجعة فيها و لا مراجعة ممكنةلها، على هيئة كليشيهات ثابتة يتم ترديدها بشكل ببغائي من طرف الجميع. ويكون المناضل مناضلا حقيقيا، بل مبدعا، كلما كرر و اجتر حرفيا هذه «الأفكار» بمصطلحاتها الأصلية، لأنها تستهدف التعبئة و التجييش السريع لكافة الأنصار و المتعاطفين.

أما المثقف فقط فلم تعد لديه هذه الجاهزية الفكرية و السياسية، وكل ما يملك هو عقله النقدي، التساؤلي الذي يمارس كشف الأوهام و تعرية الأساطير.

  فهل سيكشفه التاريخ كما كشف سلفه ؟



ليست هناك تعليقات: