الاثنين، 17 ديسمبر 2018

الصراع على القيادة والتمثيل، فشل جديد؟! - د. رياض عبدالكريم عواد

الصراع على القيادة والتمثيل، فشل جديد؟! 

 د. رياض عبدالكريم عواد
منذ بضعة أيام، فشل الفلسطينيون بالخروج في مسيرة موحدة في نابلس تحت العلم الفلسطيني، بسبب إصرار حماس على رفع راياتها، هذه الحدث الصغير المعبر، الذي يستطيع أن يستخدمه كل طرف في المناكفة، التي يبدع فيها الفلسطينيون، يبين بوضوح درسا هاما لم نتعلمه بعد، لا من التاريخ ولا من الواقع.
سنعود إلى التاريخ مع كتاب "السياسة الداخلية للحركة الوطنية الفلسطينية في مواجهة الانتداب والحركة الصهيونية 1945 - 1918” للكاتب د نظام عباسي، الذي لم نطلع عليه، ولكننا قرأنا الملخص الذي نشره الأستاذ مروان كنفاني، بمناسبة مئوية "وعد بلفور".

هذا الكتاب يناقش أسباب نكبة 1948، ليس من باب تحميّل الطرف الآخر، الاستعمار والانتداب البريطاني والحركة الصهيونية، مآل ما حدث مع “نكبة” 1948، رغم ما تتحمله هذه القوى من دور أساسي وحاسم. لكنه يناقش دور الفلسطينيين ونخبهم المحلية فيما حدث، من أجل التوقف عن الالقاء بالمسؤولية على الطرف الآخر بمسمياته المختلفة، والهروب من الاعتراف بفشلنا، ودورنا في هذا المجال.
أن السؤال الأساسي الذي يطرحه الكاتب هو، من المسؤول عن عدم تشكّل وبروز "قيادة فلسطينية متجانسة" تحمل مشروعا مؤسّسيا على نمط الوكالة اليهودية خلال 1936 - 1920، ومن المسؤول عن وجود القيادة الفلسطينية في الخارج، بيروت ودمشق والقاهرة خلال 1947 – 1937، والتي تركت الشعب الفلسطيني يواجه مصيره في 1948، دون مؤسسات تساعده على إعلان حكومة فلسطينية، على نمط "الوكالة اليهودية"، التي تحولت إلى حكومة متكاملة صباح 15 أيار/ مايو 1948؟
في الجواب على هذا السؤال يعترف المؤرخ الفلسطيني، في كتابه الهام الذي صدر قبل عشرين سنة، أن "التنافس العائلي في فلسطين شكّل عقبة كأداء أمام تحقيق وحدة وطنية صحيحة، وأدى هذا التناحر والتشاحن بين العائلات إلى إغلاق الطريق أمام بلورة الحركة الوطنية الفلسطينية، من أجل إنجاز الاستقلال".
من المعروف أن التنافس بين كبرى العائلات الفلسطينية على الثرِوة والسلطة، جعل رموز هذه العائلات الكبرى، الحسيني والنشاشيبي والخالدي الخ، تقبل لأجل ذلك بالتعاون مع سلطة الانتداب، والوكالة اليهودية من تحت الطاولة، حيث تعاملت سلطة الانتداب مع هذه الرموز وعمّقت التنافس بينها، لصالح سلطة الانتداب بطبيعة الحال.
هذا التنافس العائلي انعكس على المواقف السياسية، خاصة بين آل الحسيني وآل النشاشيبي واستمر حتى النكبة في 1948. لقد تبلور التنافس والتنازع في الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية في فلسطين بين كتلتين كبيرتين: المجلسيون أي أنصار الحسيني نسبة إلى رئاسته للمجلس الاسلامي الأعلى، والمعارضة التي ضمّت كل المعارضين له من العائلات والأحزاب السياسية.
استطاع الطرفان تحت ضغط ثورة 1936 التفاوض وتشكيل قيادة موحدة للشعب الفلسطيني "اللجنة العربية العليا"، التي رأسها الحسيني ودخل في عضويتها ممثلون للأحزاب المختلفة، لكن سلطات الانتداب البريطاني اتخذت قرارا في 1939 بحلّ "اللجنة العربية العليا"، واعتقال معظم أعضائها، ونفيهم الى جزيرة سيشل، بينما تمكن الحسيني من الهرب إلى بيروت ومنها إلى عواصم عربية وأوروبية، ليدخل في رهانات إقليمية، محور سوريا مصر والسعودية المعادي للمحور الهاشمي، ودولية، ايطاليا الفاشية وألمانيا النازية، ويقطع بذلك خط الرجعة إلى القدس، حتى حرب عام 1948.
كانت بريطانيا قد طرحت عشية الحرب العالمية الثانية “الكتاب الأبيض” الذي كان يمثل تغيراً مهماً في السياسة البريطانية تجاه فلسطين. إذ قبلت لندن بمبدأ إنهاء الانتداب، وقيام دولة مستقلة في فلسطين، ترتبط مع بريطانيا بمعاهدة، مع السماح بهجرة 75 ألف يهودي، لتعتبر بذلك أنها قد وفّت بوعدها لليهود بوطن قومي. ونظراً لحرص بريطانيا على ترتيب أوضاع المنطقة عشية الحرب، فقد وافقت على مساعي رئيس الوزراء المصري، محمد محمود لإجراء تعديلات لصالح العرب، لكن الحسيني رفض هذا الأمر، الذي انتزعه رئيس الوزراء المصري من بريطانيا.
وبقيت القيادة الفلسطينية برئاسة امين الحسيني “الهيئة العربية العليا”، التي اختارتها جامعة الدول العربية في مؤتمر بلودان 1946، تعيش في الخارج، دمشق وبيروت والقاهرة، في الوقت الذي كان فيه الفلسطينيون في أمس الحاجة اليها في الداخل، وخاصة في القدس.
في هذا الوضع جاء تبني الأمم المتحدة لقرار التقسيم في 1947 وإعلان بريطانيا عن انسحابها في 15 أيار 1948، ليجد الفلسطينيون أنفسهم دونما قيادة في الداخل، ودونما مؤسسات تعبئ الفراغ في القسم المخصص لهم، على نمط ما قامت به الوكالة اليهودية، التي تحولت إلى حكومة في أول يوم بعد الانسحاب البريطاني.
وفي هذا الوضع، تعرضت القدس ومختلف المدن والقرى الفلسطينية لأعنف الهجمات اليهودية، وتم تهجير جل الشعب الفلسلطيني، بينما أعضاء الهيئة العربية في بيروت ودمشق والقاهرة يصدرون أعنف البيانات والبلاغات.
بعد النكبة والهحرة، استمر الفشل الفلسطيني في عدم مقدرته على تشكيل قيادة ومؤسسة فلسطينية متجانسة، الى ان شكلت الجامعة العربية، في ايلول 1948، ادارة مدنية لما تبقى من فلسطين، برئاسة أحمد حلمي باشا، تحت اسم "حكومة عموم فلسطين". الا أن هذه الحكومة لم تكن فاعلة ولم تعمر طويلا، بسبب رغبة الاردن ضم الضفة الغربية، وموافقة إسرائيل على هذا الخيار، وعدم رغبة الدول العربية، مصر والسعودية، مناكفة الملك عبد الله، الذي تلقى تفويضا في 1950، من ما يسمى ممثلين الضفة الغربية للحديث باسم عرب فلسطين، من أجل ضم ضفتي نهر الأردن في دولة واحدة. وهكذا لم يعد يجد الحاج أمين الحسيني دولة عربية تقبل فيه، حيث أرسلت الحكومة المصرية سيارة عسكرية، حملت الحسيني وحكومة عموم فلسطين بالقوة إلى القاهرة، وماتت هذه الحكومة، التي لم يسمع بها الكثير من الفلسطينيين.
استمر هذا التشتت الفلسطيني والفراغ المؤسساتي إلى أن تشكلت منظمة التحرير الفلسطينية في 1964، ورغم أن الجامعة العربية هي التي شكلت هذه المنظمة، الا انها تعتبر اهم تعبير عن بروز الكيانية الوطنية، خاصة بعد أن دخلتها فصائل المقاومة الفلسطينية، واستطاعت أن تكون الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، بعد قرار مؤتمر الرباط في 1974.
لم تتعرض م ت ف الفلسطينية طيلة فترة وجودها بالتهديد بشطبها أو استبدالها من قبل فصائل م ت ف اليسارية والقومية، التي كانت تعارض هيمنة فتح على المنظمة، كما ان هذه المعارضة لم تصل يوما، حتى في ذروة الخلافات، على تهديد وجود المؤسسة، أو محاولة إيجاد إطار تمثيلي بديل لها.
منذ بداية الانتفاضة الأولى، ومنذ أن بدأ التيار الإسلامي الاهتمام بالقضية الفلسطينية وشكل حركة حماس، لم يعترف هذا التيار ب م ت ف ولم يقبل الانضواء تحت مؤسساتها، ورفض أن يكون جزءا من القيادة الوطنية الموحدة، خلال الانتفاضة الأولى، ولم يلتزم ببرنامحها وفرض برنامجا خاصا به لتسيير الانتفاضة، يتناقض الى حد ما مع البرنامج الوطني.
ازدادت حدة هذا التناقض بعد اتفاقية اسلو، وقيام السلطة الوطنية، الا ان هذا التناقض لم يقوى على خلق تعبيرات سياسية علنية، وبقي في إطار إظهار الموقف السياسي المعارض لاتفاقيات اسلو، وممارسات السلطة الوطنية، الى أن تعززت قوته خلال الانتفاضة الثانية، على حساب قوة السلطة الوطنية، التي تعرضت إلى ضربات موجعة من الاحتلال، جعلها على وشك الانهيار، وصولا إلى نجاح التيار الإسلامي في الانتخابات التشريعية وتشكيل الحكومة الفلسطينية، وصولا إلى قيام حماس بالانقلاب على الأوضاع في غزة، متخذة من ممارسات بعض الأجهزة الأمنية ذريعة لما قامت به.
هنا تجذر الرفض الحمساوي ل م ت ف، كمثثل للشعب الفلسطيني، وبصورة علنية واكثر حدة، وظهر بصورة اكثر وضوحا خاصة بعد خطاب النصر، الذي ألقاه مشعل من قطر عقب حرب 2014، ووعد بتشكيل إطار قيادي جديد يضم جميع القوى السياسية والفعاليات الشعبية والشخصيات، متغافلا عن وجود م ت ف، كجبهة وطنية عريضة، وممثل وحيد للشعب الفلسطيني.
أن الصراع بين التيار الوطني والتيار الإسلامي ليس صراعا على السلطة، رغم أن هذا هو الشكل الذي يتجلى من خلاله هذا الصراع بأوضح صوره، إنه صراع على المؤسسة والتمثيل، انه صراع بين من يطرح نفسه بديلا ل م ت ف، وبديلا لبرنامحها الوطني، وبديلا للسلطة وقيادتها. هذا هو جوهر الصراع الحقيقي بين التيار الوطني والتيار الإسلامي، وما تصريح السيد النخالة الاخير، الا تعبيرا مكثفا عن رفض التيار الإسلامي، بمختلف اتجاهاته، الاعتراف ب م ت ف كمؤسسة وبرنامج، والاعتراف بالسلطة وقيادتها ومحاولة إيجاد بدائل لها.
أن هذا الموقف من التيار الإسلامي من م ت ف والسلطة الوطنية، سيعيدنا إلى الفشل من جديد، ويدمر تاريخ طويل من النضال المتواصل لخلق م ت ف وفرض شرعيتها اقليميا ودوليا.
اننا كما فشلنا في مواجهة النكبة بسبب عدم وجود المؤسسة والقيادة الوطنية، سنفشل بعد سبعة عقود من جديد في مواجهة، ترامب واليمين اليهودي المسيحي واليمين الصهيوني وصفقة القرن، بسبب تدميرنا للمؤسسة والقيادة الوطنية وعدم وجود مؤسسة وطنية موحدة ومتجانسة.
في هذا الجو العام من الخطر الشديد، فإن الحفاظ على السلطة الوطنية وتعزيزها وتقويتها والدفاع عنها، يجب ان يكون له الأولوية القصوى.

ليست هناك تعليقات: